يعتبر العقل البشرى أهم نعمة وهبها الله للإنسان وأحد أهم إعجاز إلهى فى خلقه. ويملك العقل قدرات تمكن الإنسان من ملاحظة ماحوله من ظواهر وتحليلها وربطها واستخلاص الخبرة والمعرفة منها، وتنمية واختزان خبرات التعلم والمعرفة واستدعائها وتوظيفها، والتواصل والتفاعل مع الآخرين من خلال أدوات اللغة ووسائل الاتصال وتقنياتها الحديثة. كما تمكنه من التفكر والتفلسف منطقيا والتعامل مع المعانى والأفكار والرموز المنطقية (مثل الرياضيات). والعقل الإنسانى هو مصدر ابتكار القواعد والنظم المؤسسية لضبط الحريات وتنظيم الحقوق والواجبات فى المجتمعات الإنسانية لتيسير تقدمها والمسارعة به، وتنظيم وتكثيف التعلم من خلال نظم التعليم والتدريب، والتعامل مع المشكلات وإيجاد حلول لها، وابتكار أفكار ومنظومات وحلول ووسائل جديدة، وتمكن الطاقات العقلية والوجدانية من تشكيل وتنمية المعتقدات والقيم والأخلاقيات التى تلبى حاجة الإنسان وفطرته إلى فهم العالم الماورائى ونزعته إلى الاستقرار والإشباع الروحي. ويشهد تاريخ التقدم الإنسانى منذ نمط الحياة البسيطة فى العصور البدائية إلى ما يتمتع به الإنسان فى عصرنا الآن من وسائل وأدوات تتيح له الاستمتاع بما أنتجه وطوره العقل تراكميا وجماعيا عبر حقب طويلة من معارف وتقنيات وسلع وخدمات ونظم ومؤسسات، على القدرات الفذة والطاقات اللانهائية للعقل، ويمثل التعليم النظامى أحد أهم الآليات لتنمية قدرات العقل والوجدان وتشكيل السلوك، ويتوقف عليها إلى درجة كبيرة مواصفات البشر التى ينتجها النظام التعليمي. وقد تطورت نظم التعليم فى العالم تطورا كبيرا خلال القرن الأخير، فى هيكل ومضامين المناهج ووسائل التعليم وفى السياق المؤسسى الذى تتم فيه عمليات التعليم والتعلم. فقد تحولت هياكل ومضامين المناهج، من معارف مقولبة جامدة إلى مضامين منطقية مرنة ومشوقة، تخاطب وتفعل قدرات العقل، ويجرى مراجعتها باستمرار لملاحقة الثورة العلمية والمعرفية الهائلة التى يتسارع نموها وتجددها بصفة دائمة. أما وسائل وأساليب التعليم فقد نبذت تماما أساليب الحفظ والحشو والتلقين وتقديم المعارف وكأنها حقائق مطلقة، إلى الأخذ بأساليب تعتمد بدرجة متزايدة على الاكتشاف والتجريب والخبرة المباشرة والمشاركة فى عملية التعلم وتؤكد نسبية المعرفة. وتنامى مع هذا الاعتماد على أساليب التعلم الذاتى والتعامل المباشر للدارسين مع مصادر المعرفة، خاصة مع تطور أساليب ووسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة. وزاد استخدام التعلم الجماعى والمشاركة المعرفية بين المتعلمين، والتدرب على مهارات وآداب الحوار والتفاعل العقلى مع الرأى الآخر واحترامه. وتزايد أيضا تنمية حصيلة التعلم من خلال ربطها بالواقع العملى والحياتى وبأهداف المجال العملى والوظيفى الذى يطمح المتعلم الانخراط فيه. واعتمدت الأساليب الجديدة على تنشيط دافعية المتعلمين من خلال جعل المضامين شيقة وربطها بحاجاتهم ورغباتهم وخبراتهم وطموحاتهم المستقبلية. وتضمنت الاتجاهات الجديدة مزيدا من الاعتماد على الأساليب الديمقراطية التى تجعل عملية التعلم ممتعة وشيقة وتعتمد على المشاركة وتنمية الحكم الذاتى Judgment وإعمال العقل. وقد مكنت هذه التطورات من توسيع استخدام القدرات العقلية وتنشيطها فى عملية اكتساب المعرفة وجعلها قادرة على استمرار التعلم وتطوير الخبرات ذاتيا وجماعيا خارج نطاق نظم التعليم والتعلم الرسمى وبعد انتهائه. ولعل أحد أهم مكتسبات هذا التطور فى أساليب التعليم هو تعميق منهج البحث والمعرفة العلمية وتأهيل وتدريب العقل وتحفيزه واستخدام ملكاته فى استمرار التعلم بأساليب ميسرة مرنة والخروج عن القوالب الجامدة وإعداده للتفكير والربط المنطقى والكشف والتحليل الناقد والاستخلاص الممنهج وكذلك إبداع الأفكار الجديدة، وكذلك التشكيل السلوكى والقيمى مشتملا على آداب التعامل والنزاهة والأمانة والشفافية والالتزام والانضباط والعمل الجماعى واحترام الآخرين وتحمل المسئولية. وقد شغلت العقائد الدينية مكانها الصحيح فى هذا الإطار فلم تتداخل المعارف العلمية معها أو أن تضعفها أو تلغيها، بل على العكس، فقد أسهمت المعارف العلمية المعمقة والممنهجة فى تأكيد القناعات الدينية لكن بأسس أكثر منطقية وعمقا. وقد ساهمت هذه الأساليب والممارسات التعليمية الجديدة فى إحداث نقلة نوعية فى جودة العنصر البشرى الذى تخرجه المؤسسات التعليمية. ونتاجا لهذا أصبح لهذا العنصر مناعة تجعله غير قابل للبرمجة بمضامين غير منطقية تلغى قدراته وملكاته العقلية أو تضعها فى زنازين وقوالب الجمود والجهالة. وقد تطورت مؤسسات التعليم ونظم حوكمتها، اتساقا مع التطور فى المناهج والأساليب التعليمية، فزاد اعتمادها على تخطيط المخرجات والنواتج المستهدفة والمساءلة عنها والإبداع فى الممارسات، وعلى المشاركة الديموقراطية للأطراف المعنية الداخلية الخارجية ، وعلى المحاسبة والمساءلة عن النتائج. وأحد أبرز التطورات هو توسع المؤسسات التعليمية فى ديمقراطية التعليم بتعميق مشاركة الطلاب فى كل شئون المؤسسة التعليمية وفى كل المراحل التعليمية مع التوسع فيه فى التعليم العالي، باعتبار أن النظم والممارسات الديمقراطية فيها تؤهل لتكوين مواطن صالح يستطيع أن يمارس هذه الديمقراطية على أسس سليمة وأن يدافع عنها ويحافظ عليها خارج حدود المؤسسة التعليمية وبعد تخرجه منها. ويمكن القول أن هذه النظم والاتجاهات تؤسس ديمقراطية المواطنة، وتؤهل للتحول إلى مجتمع المعرفة والاقتصاد القائم على الإبداع والابتكار، وهى الأسس الجديدة لتفوق الأمم. السؤال الملح هنا: أين نحن من هذه التطورات والاتجاهات المعاصرة ؟ ويمكن القول أن نظم التعليم لدينا مسئولة بدرجة كبيرة عن انهيار مواصفات البشر فى كل المستويات. وفى ظل الفساد المستشرى فى مؤسسات التعليم وفى كل مراحله، تكمن الخطورة فى أن هذه المؤسسات تمثل مفرخة وبيئة حاضنة للفساد الذى يتشبع به الطلاب، فيفقدهم المناعة ضده فى هذا العمر المبكر الذى تتشكل فيه قيمهم ومعاييرهم الأخلاقية. ومن الطبيعى أن ينخرطوا فى الفساد على نطاق أوسع فى حياتهم وفى المؤسسات التى يعملون فيها أو يتعاملون معها بعد التخرج. التعليم الذى نقدمه الآن، ناهيك عن المحرومين منه، يمثل فى هشاشته وعدم جدواه ورجعيته وجموده وفساده بيئة لتحجيم وتقزيم وطمس العقول وتغييب الوعى وإفساد النفوس، وبالتالى فهو يوفر الظروف المناسبة لشيوع ثقافة الإهمال والفساد ولعمل قوى التخلف والتعصب والرجعية والتطرف التى تهدد المجتمع الآن. نحتاج إلى تفكيك آليات التشويه والإفساد التى تحتويها المناهج وأساليب التعليم والنظم المؤسسية الراهنة وإعادة بنائها على أسس جديدة قويمة، لكى نطلق العنان للعقول حتى تفكر وتحلل وتتعلم ذاتيا وجماعيا وأن تقيم وتبدع وتبتكر، وأن تعى وتمارس الحرية المنضبطة وتؤدى ما يقابلها من واجبات. ولن يتحقق هذا إلا بثورة شاملة وعميقة فى النظم والمؤسسات التعليمية، ينبغى البدء فيها الآن. وتمثل هذه الثورة اللبنة الأولى فى إعادة بناء العنصر البشري، على أسس تمكنه من التقدم والتفوق وبالتالى تحقيق العيش الكريم. ويمثل التغيير والتحول الجذرى فى النظام التعليمى إستحقاقا طبيعيا لثورتى 25 يناير و30 يونيو. فكلتا الثورتين نادتا بالحرية، وركيزتها تحرير العقول وإطلاق طاقاتها وحمايتها من الجمود والرجعية والتعصب والتطرف. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور