في أعقاب رد الفعل السريع عبر ضربات جوية مكثفة ونوعية على مواقع «داعش» بليبيا في إطار الثأر لذبح 21 قبطيا مصريا في «سرت»، ووسط صخب وضجيج برامج «التوك شو» التي يغلي بها الفضاء المصري، وضمن الفواصل الإعلانية بين الفقرات، استعاد الجمهور المصري خلال الأيام القليلة الماضية نفحات من تراث الغناء الوطني المصحوب بقدر من الشجن الإبداعي الصادق، ما يدعنا نسكب الدمع على أطلال ماض فنى عريق برع في التعبير عن قضايا الوطن ومازال زخمه ساريا حتى اللحظة ، بينما شعراء ومطربو هذا الزمان يقفون على حافة حلم الحرية عاجزين، غير عابئين بلحظة فاصلة من عمر هذا الوطن الجريح.لابد أنه قد أصابك بعض من تلك اللحظات الوطنية العفوية الصادقة مغلفة برسائل قوية تبعث على الفخر والحماسة على إحدى الشاشات وأنت تستمع لكلمات عبدالفتاح مصطفى،وألحان بليغ حمدي وغناء أم كلثوم وهى تقول:«سقط النقاب عن الوجوه الغادرة وحقيقة الشيطان بانت سافرة إنا فدائيون نفنى ولانهون إنا لمنتصرون». وبقدر من البهجة والإحساس بالفخار بجيشك الوطني، الذي يظل خط الدفاع الأخير عن الأرض والعرض والمقدسات، حتما قد شعرت بالنار التي تغلي في صدره وثبات أصابع ذلك الجندي الرابض على خط النار مرددا كلمات أحمد شفيق كامل وألحان كمال الطويل وغناء عبدالحليم حافظ: « خلى السلاح صاحى لو نامت الدنيا صاحي مع سلاحى سلاحى فى ايديه نهار وليل صاحى ينادى يا ثوار عدونا غدار خلى السلاح صاحي» بينما تهتف أمهات مكلومات على فقدان فلذات أكبادهن في متاهات الأيام الصعبة، والبحث عن لقمة عيش في أرض الغربة الموحشة ولسان حالها يقول كلمات العظيم عبدالرحيم منصور وألحان المبدع بليغ حمدي وغناء بنت مصر شادية: «يا أم الصابرين تهنا والتقينا يا أم الصابرين ع الألم عدينا يا مصر يا أمنا / يا مصر يا أرضنا يا مصر يا حبنا يا مصر يا عشقنا»، وفي مكان قصي، في عز الشتاء القارص يقف جندي أسمر في تحد آخر على حدود نفس الوطن، مستنشقا هواء باردا مخلوطا برزاز مطر خفيف،بينما أقدامه ثابتة على رمال داستها أقدام إرهابية غادرة، كانت لتوها في مناورة للنيل من زملائه وهو يهمس ببنت شفتيه كلمات أحمد فؤاد نجم وألحان وغناء الشيخ إمام: «واه يا عبد الودود يا للي رابض ع الحدود ومحافظ عالنظام كيفك يا واد صحيح عسى الله تكون مليح وراقب للإمام أمك عتدعي ليك وعتسلم عليك وتقول بعد السلام خليك ددع لابوك لا يقولوا منين دابوك» لا فرق هنا بين جندي وآخر ، أو مواطن ومواطن، فالكل مصريون في الدم، سواء كان مسلما أو مسيحيا ، من قبلي أو بحري ، من شرق القناة أو غربها، سويسي كان أو من الواحات فالأغنية تقول كلماتها التى كتبها أحمد فؤاد نجم ولحنها الشيخ إمام وغناء سعاد حسني: دولا مين، ودولا مين دولا عساكر مصريين دولا مين ودولا مين دولا ولاد الفلاحين دولا الورد الحر البلدي يصحى يفتح اصحى يا بلدي» هذه مقاطع قليلة من تراث الأغنيات الوطنية التى ترددت بقوة في الفترة الأخيرة بعد إعلان حالة الحداد أسبوعا كاملا على ضحايا عملية الإعدام البشعة بحق 21 قبطيا مصريا على يد مسلحي تنظيم «داعش» في ليبيا، وخلال أيام الحداد - كالعادة - لم تجد كافة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية أغنيات تناسب أجواء وقوع الجريمة البشعة التى ارتكبها أعداء الوطن والإسلام غير الأغنيات القديمة التى قدمها أساطين النغم مثل «أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ، وشادية، ونجاة، وفايزة أحمد، ووردة، وسيد مكاوي، وسعاد حسني. فالمتابع لبرامج الفضائيات والإذاعة خلال الفترة الماضية وحتى الآن ربما لا يجد غير بضع أغنيات شبابية قليلة أبرزها « سلملي على الشهداء اللي معاك» لشيرين عبدالوهاب، كلمات أيمن بهجت قمروألحان وتوزيع خالد عز و«بلدى التاريخ لما بيتكلم عليها يقوم يقف وينحنيلها احترامًا/ بلدى حاميها ربنا ومن بعده جيشها» لأنغام، كلمات أمير طعيمه وألحان وتوزيع خالد عز، و« يا شعب يا واقف على باب النهار» لحماقي، والتي سبق وقدمها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، من كلمات محسن الخياط، وألحان الموسيقار بليغ حمدي، والتوزيع الحديث لخالد عز، و« تسلم ايديك» لحسين الجسمي، كلمات نادر عبدالله، وألحان وليد سعد، هذه الأغنيات مع أوبريت « تسلم الأيادي» لمصطفى كامل هى التى ترددت مع أغنيات العمالقة القدامى. والحقيقة أن كثرة عرض وإذاعة الأغنيات القديمة مع كل حدث طارئ في مصر سواء بالإيجاب أو بالسلب، أو كان الحدث حزينا أو سعيدا، استوقفني كثيرا، وأعتقد أنه استوقف كثيرين غيري، وهو ما أثار بداخلي أكثر من سؤال، أولها: هل الشعراء الكبار أمثال «عبدالفتاح مصطفى وفؤاد حداد وبيرم التونسى وبديع خيرى وصلاح جاهين وعبدالوهاب محمد، وعبدالرحمن الأبنودي، ومجدي نجيب، وعبدالرحيم منصور، وأحمد فؤاد نجم ونبيلة قنديل» وغيرهم من شعراء العامية المصرية كانوا منجمين؟ أم أنهم كانوا يدركون ما يضمره لنا المستقبل من تخاذل وتراجع إبداعي، عندما عبروا بصدق من خلال أساطيرهم الغنائية التي لاتزال تسكن وجداننا على مر الأيام والليالي والنوائب التي تصيب الوطن؟ فحقيقة الأمر أن ما كتبوه لوصف حالة ما فى الخمسينيات أو الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضى تكاد تتطابق حرفياً مع واقعنا الحالي، وربما يرجع ذلك إلى أن العدو واحد، فمهما تغيرت الوجوه بتغير الأزمنة لا يتبدل وجه العدو البائس القمئ!. وتبقى الحقيقة واضحة جلية في صدق ما قدموه من روائع غنائية تخاطب الوجدان في كل زمان ومكان، فلم يكن مبدعو الزمن الماضي يتعاملون مع الأحداث التى تمر على الوطن بمنطق « السبوبة» أو « النحت»، ولكنهم كانوا يعبرون بشفافية شديدة عن الحالة التي تمر بمصرنا الحبيبة، لهذا عندما يعاد ترديد أغنياتهم الآن من جديد تشعر وكأنهم يعيشون معنا في نفس الظرف التاريخي الحاد بزخمه الوطني الذي يعكس براعة المصري، جنديا كان أو مدنيا، شاب أو فتاة، سيدة عجوز أو طاعن في السن. والسؤال الثاني أين ذاكرة مصر الغنائية الآن؟ بمعنى أين المطربون الحاليون؟ وإذا كان هناك إهمال من الجهات المسئولة عن الإنتاج ممثلة في الإذاعة أو التليفزيون المصري اللذين لعبا دورا مهما وحيويا في الفترات والأزمنة السابقة، نظرا لوعي المسئولين آنذاك، وإدراكهم لأهمية الإبداع متمثلا فى الأغنية، على عكس المسئولين الحاليين الذين قفزوا فجأة إلى مناصب هامة دون أي خبرة أو ثقافة تؤهلهم لذلك، فلماذا لا ينتج المطربون الحاليون أنفسهم أغنيات وطنية خاصة بهم ويقدمونها هدية لوسائل الإعلام؟ كما كان يفعل «عبدالحليم حافظ وشادية ونجاة وورده وغيرهم». وهنا لا أقصد المطربين «الغلابة» أو الذين لا يملكون قدرة مالية على الإنتاج، ولكن أقصد المطربين الميسورين مثل «عمرو دياب وتامر حسني ومحمد حماقي وشيرين عبدالوهاب وأنغام وآمال ماهر» خاصة أن هؤلاء أخذوا من مصر كثيرا، ومن حق مصر عليهم أن يقفوا معها في تلك الأيام الصعبة وذلك بتقديم إبداع حقيقي، بعيدا عن مبدأ «السبوبة» والاستسهال، أو استنادا لحجج واهية بأن الأغنية الوطنية لا تذاع ولا تعرض سوى مرات قليلة، لأنه ثبت بالدليل القاطع أن الأغنية الوطنية الحقيقية عندما تكون صادقة يمكن أن تعيش سنوات طويلة، وأكبر دليل على ذلك ما يذاع ويعرض الآن من التراث الغنائي الوطني لكبار مطربينا، فقد كان مطربو الماضي لا ينفصلون عن مجتمعهم، لهذا فقد استمروا عالقين بذاكرة أمة، وعاشوا حتى الآن فى وجدان الشعب المصري . ويظل سؤال يؤرقني، وأطرحه بمناسبة ما قاله لي المطرب الشعبي شعبان عبدالرحيم فى الأيام الماضية عندما سألته : لماذا لم تطرح أغنية وطنية يا عم شعبان كما عودتنا فى مثل هذه المناسبات؟! فقال لي ببساطة «همه فين الشعراء يا عم أحمد؟ مافيش حد راضي يكتبلي حاجة أغنيها!». أما السؤال المر الذي يفرض نفسه باحثا عن إجابة شافية : هل خلت مصر الآن من الشعراء الموهوبين الذين يستطيعون أن يعبروا عن فجيعة بحجم هذا الوطن ، ويوثقون بأشعارهم التاريخ الحديث بما يحمله بين طياته من مآس درامية غارقة في قمة المأساة، تماما كما سبق ووثق شعراء الماضي تاريخ مصر المعاصر؟ هم موجودون ، فما زال نهر الإبداع يجري، ومازال لدينا أكثر من جيل من شعراء العامية العظام مثل: عبدالرحمن الأبنودي،وسيد حجاب، صلاح فايز، مصطفى الضمراني، جمال بخيت، إبراهيم عبدالفتاح، بهاء الدين محمد، عوض بدوي، هاني شحاته، وائل هلال، بهاء جاهين، والشباب الموهوبين مثل : نادر عبدالله، هاني عبدالكريم، أيمن بهجت قمر، محمد جمعه، ناصر الجيل، أمير طعيمه، نصر الدين ناجي»، لكن يبقى السؤال الشائك: ماذا يفعل كل هؤلاء الآن ؟! وأين أشعارهم؟ ولماذا هذا التجاهل التام لما يحدث؟ بل لماذا استسلموا لليأس؟! لقد كان شعراء الماضي يحرضون بأشعارهم الشارع المصري، ويدفعون بالأمل والقوة والعزيمة في نفوس الجماهير التواقة للحرية، ويراهنون بأشعارهم على المصرى البسيط، ويخاطبونه فى كثير من أشعارهم باعتباره وحده القادر على تذليل كافة الصعاب، وكانوا بعيدا عن نشر أشعارهم على حناجر أم كلثوم أو عبدالحليم أو فريد الأطرش أو نجاة أووردة أو شادية، كنت تجدهم ينشرون أشعارهم الوطنية فى الجرائد المصرية ليدلوا بدلوهم في أي حدث يمر بمصرنا الحبيبة. ولأجل كل مامضي لم يعد هناك مفر من المشاركة الفعالة من جانب شعرائنا ومطربينا على السواء، فنحن الآن فى مرحلة بناء ومواجهة، ومصير يتهدده إرهاب أعمى، بينما طيور الظلام تتحلق من حولنا في محاولة لتعكير صفو حياتنا المصرية صاحبة الحضارة والتاريخ ، وهو ما يتطلب منا «الآن .. الآن . .وليس غدا» الإخلاص والعمل والإبداع من جانب كل مصري فى موقعه أو مهنته حتى تنهض بلدنا سريعا وتقدر على التصدي.