لم يكن تنظيم داعش الإرهابى لينمو فى التربة الليبية ويمارس أبشع جرائمه فى القتل والذبح لولا حالة الفراغ الأمنى وغياب أفق الحل السياسى لإخراج البلاد من حالة الهلامية السائدة منذ أربع سنوات بعد ثورة 17 فبراير. فالبيئة الليبية بطبيعتها تتسم بالاعتدال وتبنى الإسلام الوسطى وتنبذ العنف والتطرف, ولأن الجماعات الدينية الظلامية مثل داعش وغيرها تستغل حالة تفكك الدولة وانشغال أبناء المجتمع بالاقتتال والصراع على السلطة, فقد سعت داعش إلى الانتقال من العراق وسوريا إلى ليبيا وبناء قاعدة للانطلاق منها إلى بقية الدول التى تشهد صراعات, وترتكب جريمتها النكراء بذبح المصريين, وهو ما دفع مصر لشن هجماتها الجوية للقصاص دون الاستدراج إلى فخ التدخل البرى والانغماس فى المستنقع, وهو ما تريده تلك الجماعات الإرهابية.وظاهرة داعش هى أحد أعراض المرض الأساسى فى ليبيا المتمثل فى حالة اللادولة, وجسدته أعراض أخرى فى انتشار الميليشيات المسلحة التى تزيد على 1600مليشيا كل منها يسيطر على مساحة من الأرض, وأكثر من 22 مليون قطعة سلاح منتشرة فى المدن الليبية, وتنازع سلطتين لكل منهما برلمان, إحداهما فى طبرق والآخري فى طرابلس, وقوتان عسكريتان هما قوات حفتر وفجر ليبيا, وأطراف خارجية تدعم هذا الطرف أو ذاك مما زاد من تعقد المشهد واستمراره وتفاقمه. ومن الطبيعى أن تنطلق مواجهة واستئصال داعش وخطر الإرهاب من معالجة هذا المرض عبر استعادة الدولة الوطنية الليبية وبناء المؤسسات المتمثلة فى جيش وطنى يمتلك وحده شرعية استخدام السلاح لفرض الأمن الداخلى والدفاع عن حدود البلاد, ووجود حكومة وحدة وطنية تضم مختلف الأطياف السياسية الليبية غير الملوثة بالقتل والعنف, وتشرف على تجاوز المرحلة الانتقالية والإسراع بكتابة الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية. غير أن نجاح الحل السياسى يتطلب أولا تحقيق المصالحة الوطنية بين كل أبناء الشعب الليبى, والتحام النسيج المجتمعى, الذى تعرض للتمزق بفعل الكراهية وسياسات التهميش والإقصاء, وبناء الثقة بين أطراف الأزمة والاتفاق على خريطة طريق محددة واضحة يتفق عليها الجميع بشأن مستقبل ليبيا والطريق الذى تسير فيه, والاقتناع بأن استمرار الصراع والانقسام واحتكار كل طرف للشرعية وتمثيل الليبيين لن يؤدى إلا إلى مزيد من القتل والتدمير لمقومات الدولة ويعيقها عن تحقيق أهداف ثورة 17 فبراير فى الحرية والكرامة, ويهيئ التربة لنمو الجماعات الشيطانية الإرهابية, التى سينكوى بنارها الشعب الليبيى, قبل دول الجوار. ورغم أن الحوار الليبى الذى ترعاه الأممالمتحدة وبدأ جلساته فى جنيف وغدامس يعد خطوة إيجابية فى حد ذاته ويؤكد القناعة بأن الحل العسكرى لن يحسم الأزمة وأنه لا مفر من الحل السياسى, إلا أنه يواجه تحديات عديدة أولها: غياب رؤية سياسية شاملة تعالج جذور ومكونات الأزمة الليبية المستعصية منذ سنوات, وينزع ألغام المشهد الليبى مثل قانون العزل وقانون العدالة الانتقالية ومسألة الدستور, فالقضية الأساسية هي كيف يمكن بناء معادلة سياسية جديدة فى ليبيا تضم مختلف القوى من إسلامية ومدنية ومن الثوار وأنصار نظام القذافى على أساس المواطنة وحكم القانون ودولة المؤسسات, وتنبذ وتعزل كل من تلوثت أيديه بالقتل والعنف والإرهاب من أى طرف, بل وتتحد تلك القوى الوطنية الليبية فى مواجهة خطر الإرهاب وظاهرة داعش قبل استفحالها. وثانيها: أن كل طرف, سواء ممثلى البرلمان أو المؤتمر الوطنى, يدخل الحوار لكسب الشرعية وفرض منطقه وشروطه ويراهن على موازين القوى على الأرض, دون تقديم تنازلات وتضحيات حقيقية للوصول إلى حل سياسى توافقى, ولذلك فإن نجاح الحوار يتطلب تغليب مصلحة ليبيا العليا وبناء الدولة والتنازل عن المطالب الفئوية والجهوية والأيديولوجية. وثالثها: أن الحوار حتى الآن يتم بشكل غير مباشرا، حيث يتقابل المبعوث الأممى ليون مع كل طرف ويستمع لوجهة نظره وينقلها للطرف الآخر, والأجدى إن يكون الحوار مباشر بين الفرقاء الليبيين وأبناء الوطن الواحد, بل ومن المهم أن يتسع الحوار ليشمل ممثلى القبائل الليبية الكبرى, حيث أن المدخل القبلى مهم جدا فى هذه المرحلة للسيطرة على الميليشيات المسلحة, وأن تكون القبائل ضامنة لهذا الحوار ومخرجاته التى يجب أن تكون ملزمة لكل طرف. ورابعها: صعوبة نجاح الحوار فى ظل استمرار حالة الصراع على الأرض وحالة العسكرة فى المجتمع, فمن المهم أن تتوقف جميع صور القتال وأن تتكاتف جهود الأطراف الداخلية والخارجية من أجل إنجاح الحوار والتوصل إلى مخرجات محددة ووفق جدول زمنى محدد تفضى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية محايدة, ونزع أسلحة الميليشيات وإنجاز خطوات المرحلة الانتقالية لنقل ليبيا من حالة اللادولة إلى حالة الدولة الديمقراطية القوية القادرة على تحقيق أهداف ثورة فبراير, ومواجهة إرهاب داعش, وملء حالة الفراغ الأمنى والسياسى واستيعاب الجميع, والنهوض بالاقتصاد والتنمية وتحسين معيشة الليبيين, والخروج من ثنائية إما الاستبداد الذى جسده القذافى لعقود, وإما الفوضى والإرهاب التى سادت فى مرحلة ما بعد الثورة, إلى طريق ثالث وهو الديمقراطية والتنمية والحرية. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد