تعكس موجة العنف الدموية الحالية فى طرابلس وبنغازى طبيعة الصراع الحقيقى فى ليبيا بين السياسة والسلاح, وتطوره وتعمقه على مستوى الدولة والمجتمع ويدفع باتجاه الانفجار بين مكونات المجتمع وأطيافه السياسية. فالقتال الدائر حول مطار طرابلس منذ أسبوعين يرتبط بشكل مباشر بفشل العملية السياسية والصراع الحاد بين القوى الإسلامية, وعلى رأسها حزب العدالة والبناء, وبين تحالف القوى الوطنية الذى يضم فى غالبيته رموز وأنصار نظام القذافى السابق, كما أنه يرتبط بنتائج انتخابات مجلس النواب الأخيرة, والتى أظهرت مؤشراتها تقدم تحالف القوى الوطنية, وكذلك بالصراع الدائر منذ شهور بين أنصار اللواء المتقاعد خليفة حفتر وبين الإسلاميين, فى إطار معركة استعادة كرامة ليبيا, حيث شنت قوات حفظ أمن واستقرار ليبيا, والتى تتكون من ميليشيات ثوار مصراتة الإسلامية, هجوما على ثوار الزنتان, الصوعق والقعقاع, الذين يسيطرون على مطار طرابلس منذ سقوط القذافى عام 2011, ويتهمونهم بأنهم يقاتلون إلى جانب حفتر ويؤون ضباط من جيش القذافى فى صفوفهم. تداعيات الموجة الدموية الحالية أنها ليست فقط تهدد بتصاعد الصراع المسلح فى كبريات مدن ليبيا طرابلس وبنغازى وانتشاره إلى بقية المدن, واتساع دائرة العنف, الذى عكسه حجم التدمير الهائل للمطار والطائرات المدنية, والتى تجاوزت المليار دولار, والنزوح والإجلاء الجماعى للأجانب, بل الأخطر انه يمثل لغما حقيقيا وعقبة كبرى أمام مجلس النواب الجديد الذى سوف يتسلم السلطة من المؤتمر الوطنى العام الشهر المقبل, ويعيق تقدم العملية السياسية واستكمال خطواتها خاصة كتابة الدستور الجديد الدائم والانتخابات الرئاسية, ويدفع المجلس إلى الانزلاق إلى أتون الصراعات والتحديات التى وقع فيها المؤتمر الوطنى. إضافة لانتشار شظايا الصراع فى ليبيا على دول الجوار ومخاطر أن تتحول إلى دولة لتصدير العنف والإرهاب وتهريب الأسلحة فى ظل هلامية وسيولة الحدود الليبية خاصة الجنوبية. إشكالية ليبيا الحقيقية وجوهر الأزمة وغياب أى آفاق لحلها, تتمثل فى, أولا فشل الأطراف والقوى المختلفة, إسلامية أو ليبرالية أو قوى النظام القديم فى إدارة خلافاتها السياسية عبر الحوار والتفاوض والتوافق واللجوء إلى العنف والسلاح فى إدارتها، ساعد فى ذلك عسكرة المجتمع الليبى واستقواء كل فصيل بميليشياته المسلحة, وثانيا غياب ثقافة الديمراطية والتعايش بين الأطياف السياسية والقبلية المختلفة وإدارة اللعبة السياسية وفقا لنظرية المباراة الصفرية, فكل طرف يسعى للقضاء على الطرف الآخر, ولذا فمشكلة ليبيا كغيرها من ثورات الربيع العربى أنها ديمقراطية بلا ديمقراطيين يمارسون ثقافة الاختلاف والتسامح والتعايش وتحويل تلك الاختلافات إلى عامل ثراء، وإنما لعامل صراع وتوتر، ولذا فى الوقت الذى تحتكم فيه ليبيا إلى عملية سياسية ديمقراطية عبر آلية الانتخابات, فإن أطرافها يمارسون السياسة بلغة الإقصاء وثقافة القبلية, والمحصلة الطبيعية لذلك هو تعثر تقدم العملية السياسية الحقيقية, وخسارة الدولة والمجتمع الليبى فرص التقدم وبناء الدولة وتوظيف الموارد وتحقيق التنمية والتلاحم بين كل أبناء الشعب. وفى ظل انتشار الميليشيات المسلحة فى كل أرجاء البلاد وغياب الدولة المركزية ومؤسساتها الأمنية الوطنية, والاستقطاب الحاد بين الإسلاميين والليبراليين والصراع بين الثوار وأنصار النظام القديم خاصة فى ظل قانون العزل الذي يستبعد جزءا كبيرا من المجتمع الليبى من العملية السياسية, وفى ظل غياب رؤية موحدة بين ثوار 17 فبراير حول شكل ومستقبل الدولة الليبية وأولوياتها الحقيقية بعد سقوط القذافى, كان طبيعيا أن تحدث المخرجات الحالية من تعثر للعملية السياسية واستمرار العنف والصراع بين القوى والأطراف المختلفة, وحالة الضبابية حول مستقبل البلاد والمسار الذى تتجه إليه. لن تجدى العملية السياسية فى ليبيا نفعا مادام استمر رهان الأطراف المختلفة على الحل العسكرى ولغة السلاح فى إدارة خلافاتهم وتوجيه العملية السياسية وفقا لأهوائهم وتوجهاتهم, فالنتيجة الحتمية لأى صراع مسلح هو خسارة الجميع وتدمير البلاد, ولن تخرج البلاد من هذا الطريق الوعر سوى بالاحتكام إلى لغة الحوار والتوافق, وإزالة الألغام المتعددة وأبرزها إلغاء قانون العزل وإحتواء أنصار النظام السابق فى العملية السياسية, مع استبعاد كل من تلوثت أيديهم بالدماء, كذلك لن تفلح الثورة المضادة فى القضاء على ثورة 17 فبراير وإعادة التاريخ إلى الوراء, إضافة إلى لغم الميليشيات المسلحة, التى تحل محل الدولة, وأهمية نزع تلك الأسلحة واستيعاب تلك الميليشيات فى جيش وطنى موحد قادر على بسط الأمن وحماية العملية السياسية, والعمل الجاد من جانب مجلس النواب الجديد على إعادة بناء مؤسسة الدولة ونزع الشرعية عن أى قوى أو فصيل يحاول اختطافها ويسعى للتخلص من الفصائل الأخرى, وتصحيح الخلل فى العملية السياسية, والإسراع فى تحقيق التنمية وتوظيف موارد البلاد الطبيعية الهائلة من النفط فى القضاء على مشكلات البطالة, خاصة بين شباب الثوار, وقبل ذلك كله توافق ثوار ليبيا على رؤية موحدة ومسار محدد من الديمقراطية والحرية والتنمية لبلادهم, ودون ذلك فليس مستبعدا أن يؤدى الصراع الحالى إلى أن تصبح ليبيا دولة فاشلة. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد