هل جاء اليوم الذى أصبح علينا فيه أن نعترف بأن تنظيم القاعدة بكل جبروته وإرهابه, كان فى نهاية المطاف نموذجا للإرهاب التقليدى عندما يفلت من عقاله, وان التنظيم الإرهابى الذى منح الألفية الجديدة بصمتها الخاصة, وشكل ملامح عقودها المبكرة, كان مجرد إرهاصات لما نحن فيه اليوم, التطور الأشرس للتنظيمات الإرهابية, وهل تصورنا انه سيأتى اليوم الذى يعتقد فيه بعضنا أن القاعدة كانت تنظيما أكثر أخلاقية مقارنة بتنظيم الدولة, وان الولاياتالمتحدة -التى مازالت القوى العظمى والتى خلقت ذلك الكيان الإرهابى الجديد المشوه, ستعترف على نحو ما بأنها غير قادرة على القضاء عليه, وان أقصى ما تملكه حياله هو فقط تحجيمه. يبدو الأمر أشبه برواية فرانكنشتاين للكاتبة البريطانية مارى شيلي( 1818), فقد خلقت أمريكا, دون أن تعى جيدا حجم العواقب, وحشها الخاص الذى دمر برجيها فى 11/9, وعندما أدارت إستراتيجيتها للقضاء عليه, تفوقت على نحو مخجل على نفسها وخلقت هذه المرة وحشا أكثر دموية, واقل إنسانية كثيرا من الوحش الذى ظنت أنها نجحت فى دحره, أو ظنت على الأقل أنها أبعدته إلى آخر الدنيا, ولم يعد يهدد أمنها القومي.ومع تنامى وحشية ودموية داعش, عمد الكثير من الكتاب والمحللين المتابعين للتنظيمات الإرهابية, إلى عقد مقارنات ما بين التنظيم الأم والتطور الجديد لفكره ومنهجه وأدواته, المتجسد فى تنظيم الدولة, وبدا أن هناك زوايا جديدة فى إعادة تقييم القاعدة, بقدر أكثر حيادية من التقييمات السابقة والمرتبطة بزخم عمليات التنظيم الإرهابية, التى وقع ضحيتها المدنيون. ففى مقال بمجلة «فورن أفيرز» حاولت الباحثة اودرى كورث كرونين, مديرة برنامج الأمن الدولى بجامعة جورج ميسون الأمريكية, الوقوف على الاختلافات الجوهرية التى تفصل بين القاعدة وداعش, حتى وان كانت الأخيرة قد خرجت من رحم الأولي. وتميز كرونين بشكل واضح أن تنظيم القاعدة قد تصور نفسه يجسد طليعة تمرد عالمى قادر على تعبئة المجتمعات الإسلامية ضد الحكم العلماني, وقد استخدم التنظيم حججا دينية تبرر قتله للمدنيين ورسائل ملتهبة عن الإيثار الذى تجسد فى العمليات الانتحارية, والاستشهاد فى سبيل الأمة والمجتمع الإسلامى العالمي, ونجح بن لادن ومن بعده نائبه ايمن الظواهري, فى رسم صورة بطولية وهمية كان لها أثرها الهائل فى نفوس أتباعهما, عبر تسجيلات مصورة دعائية, نجحت فى تقديمهم كمحاربين زاهدين أتقياء تركوا الدنيا بما فيها ومن فيها واكتفوا بالجلوس على الأرض فى الكهوف النائية. صورة بن لادن الثرى السعودى الذى ترك وراءه الثروة من اجل تحقيق أهداف ثورية تخدم الأمة الإسلامية على المدى الطويل التى أحاطته بجاذبية غامرة لدى أتباعه وقد جسد لهم نموذج الأب المثالى والقائد الذكى الورع الأشبه بالصحابة, مع تصوير قادة القاعدة لأنفسهم باعتبارهم نماذج أخلاقية شديدة الالتزام دينيا, كان لها تأثيرها الهائل على عدد كبير من الشباب. فقد ظن هؤلاء الشباب أنهم بتتبع خطوات بن لادن قادرون على القضاء على العدو الأكبر أو الشيطان الأعظم... أمريكا والغرب ومن فى ركبهم, تمهيدا لتأسيس دولة إسلامية لها أهداف ووصفها بعض المحللين بأنها كانت طوباوية أو مثالية بشكل أو بآخر, لقد اعتمدت القاعدة على إستراتيجية توعية وتعبئة الأمة فى المقام الأول, واثبات أنهم قادرون على أحداث تغيير عميق فى النظام العالمي. فى المقابل, اعتمد تنظيم داعش على تقديم رسالة مختلفة تماما لمريديه من الشباب والفتيات, فلم يعتمد التنظيم فقط على فكرة النقاء الديني, ولكنه قدم نفسه باعتباره التنظيم المغامر.. قادته من الشباب, يتميزون بقوة الشخصية, لا يعترفون بأى خطوط حمراء, لديهم شعور طاغى بالذات, أكثر ميكافيلية من التنظيم الأم, يؤكدون دوما انه لا يوجد ما قد يثنيهم عن تنفيذ أهدافهم, حتى ولو جاءت متناقضة تماما مع جوهر الدين الإسلامي, لديهم دوما تخريجاتهم الخاصة للنص الديني, ومستعدون دوما للتنازل عن ملامح البشر, واستخدام أقصى صور العنف الوحشى من أجل جذب الانتباه وتأكيد الهيمنة, واثبات انه لا يوجد ما قد يردعهم. ببساطة كان القاعدة التنظيم الذى حلم, وأصبح داعش التنظيم الذى نفذ الحلم بوسائله الخاصة, وتمكن بالفعل من تأسيس ما يمكن اعتباره دولة, هى حسب وصف عدد من المحللين, دولة زائفة تمتلك جيشا تقليديا. باختصار وكما تعبر كرونين, نجح تنظيم الدولة, فى إشباع بدائى وعلى المدى القصير لكل ما قد يلزم المراهقين: أقصى درجات المغامرة, جميع أشكال الإشباع الجسدي, تحقيق النتائج الفورية, البعد تماما عن التفكير المنطقي, الذى قد يشكل فى حد ذاته عبئا لا يحتمل على ذهن مراهق متطرف. تمكن تنظيم داعش بالفعل من القضاء بنسبة 90% على هيبة واستراتيجيات التنظيم الأم طويلة المدى, حتى ولو كانت القاعدة والجماعات التابعة له ما زالت تشكل خطرا فى شمال أفريقيا واليمن, فإنها فعليا فى طريقها إلى الزوال, فى الوقت الذى يثبت فيه تنظيم الدولة انه الإرهاب الصاعد, القادر من الهيمنة على الأحداث لسنوات قادمة. ربما تكمن الإشكالية الحقيقية أمام الولاياتالمتحدة وحلفائها اليوم فى مواجهتها لداعش, أنها تصر على التعامل معه على انه القاعدة, وما زالت تهنئ نفسها على القضاء عليه, مؤكدة انها نجحت فى القضاء عليه. فيما يبدو جليا أنها تتعامى عن خطأ بسيط تقوم عليه حساباتها فى محاربة داعش, أنها لم تقض بنفسها على القاعدة ولكنها خلقت وحشا جديدا التهم القاعدة, وهضمه, وأصبح داعش الذى يضم نحو 30 ألف مقاتل, دولة تسيطر على أراض شاسعة فى كل من العراق وسوريا, ولديه قدرات عسكرية واسعة النطاق, يمتلك خطوط اتصالات, وسيطرة منظمة على بنية تحتية,يمول نفسه ذاتيا والاهم أن لديه القدرة على مواجهة الجيوش التقليدية بمعدات عسكرية أمريكية متطورة, كل هذا ما لم تملكه يوما القاعدة. وخلال الشهور القليلة التى انتظرت فيها واشنطن أن يتمكن «وحشها القديم» القاعدة من القضاء على نظام الأسد, حسب ما عبر عنه الرئيس الأمريكى مؤخرا بسياسة «الصبر الاستراتيجي», كانت النتيجة تمكن داعش من سحق المعارضين السوريين المتحالفين مع الولاياتالمتحدة, بل انه تمكن أيضا مع فتح قنوات اتصال وتبادل نفطى مع نظام الأسد نفسه. وفى العراق تعمدت واشنطن التعامى عن سياسات المالكى الطائفية وضعف الدولة المركزية, فتوحد تنظيم داعش بيسر مع جميع الحانقين من الجماعات السنية المتطرفة التى تشكلت عقب الغزو الأمريكى للعراق 2003, داخل السجون التى أدارتها القوات الأمريكية, اتحد الجميع, الحانقين مع الإرهابيين, زعماء العشائر السنية مع الضباط العراقيين العلمانيين السابقين فى جيش صدام حسين, وعلى رأسهم الخليفة الجديد «أبو بكر البغدادي». بحلول يناير 2014 كان يتوافد على داعش, وفقا لتقديرات المخابرات الأمريكية, نحو ألف مقاتل شهريا من 80 دولة, بعضهم شباب جاء من بيوت الطبقات المتوسطة العادية فى أوروبا وأمريكا, للمساهمة فى طمس فورى للحدود السياسية لمنطقة الشرق الأوسط, التى وضعتها القوى الغربية فى القرن الماضي, يقودهم قادة عسكريون عراقيون سابقون مدربون جيدا على التقنيات والأسلحة الأمريكية. أيضا مازالت واشنطن تصر على أنها قادرة على تجفيف منابع تمويل داعش كما نجحت من قبل مع القاعدة, دون الاعتراف أن داعش فى الواقع لا تحتاج إلى تمويل خارجي, فقد نجح التنظيم فى بناء نموذج مالى مكتف ذاتيا لم ينجح فى بنائه من قبل أى تنظيم إرهابى ليصبح التنظيم الأكثر ثراء فى التاريخ. ولكل ما سبق وغيره تدرك الإدارة الأمريكية جيدا أنها غير قادرة مواجهة وحشها الجديد عسكريا, وقد بدا ذلك واضحا عندما أعلن أوباما خلال قمة مكافحة الإرهاب , التى عقدت مؤخرا, انه يسعى إلى تحجيم داعش وليس إلى القضاء عليه, ربما لأنه يدرك انه لا يملك حتى اللحظة الإستراتيجية التى ستمكنه من القضاء على الجيل الجديد الأكثر وحشيه وفتكا من الإرهاب الذى صنع تحت إشرافه.