لم تأخذ ما تسمى بفضيحة التسريبات التى أذاعتها الجزيرة القطرية، وشقيقاتها من القنوات الإخوانية، حظها من التركيز فى مصر، ربما لأن هناك هموما أمنية وقضايا سياسية أكثر أهمية، وربما لأن الانطباع الذى ساد عنها مبكرا أنها «مفبركة»، فلا يمكن لأحد تصديق أن الرئيس السيسى وبعض معاونيه، يوجهون انتقادات لاذعة لدول خليجية شقيقة، وقفت إلى جوار مصر فى أحلك اللحظات صعوبة.لكن التسريبات مضت إلى حال سبيلها، بعد أن جرى تهيئة الأجواء الإعلامية لها عن جدارة، ولم تحقق أغراضها فى ضرب العلاقات المصرية الخليجية، وضاعت جهود أصحابها هباء، وفشل من وقفوا خلفها، ومن دعموها، ومن فكروا فى بثها، ومن خططوا لأجل إضفاء إثارة عليها، فى تحقيق ما أرادوا الوصول إليه فى الوقت الراهن. فقد تجاهلوا أن الممارسات والأفعال أهم من الأقوال، فما بالنا إذا كان الكلام محرفا ؟رب ضارة نافعة، كما يقولون، حيث انقلبت التسريبات، إلى مشكلة على رأس من رسموا لها خريطة الطريق، وجهزوا المسرح جيدا لاستقبالها بدرجة مشوقة، فالدول الخليجية التى كانت معنية بالمسألة، أكدت عدم اكتراثها بهذه النوعية من الألعاب السياسية، وأظهرت تأييدا كبيرا لمصر، وتسابق المسئولون بها فى تقديم الدعم المعنوى والسياسى للقيادة المصرية، التى بادرت مبكرا بالتواصل مع الملوك والزعماء، لكشف أبعاد المؤامرة وأهدافها، وربما تكون الاتصالات التى أجراها الرئيس السيسى مع الملك سلمان بن عبدالعزيز، الأكثر أهمية، لأنها قطعت الطريق على التكهنات التى ذهبت إلى حد الادعاء أن هناك توترا بين مصر والسعودية، الأمر الذى بنى عليه مروجو التسريبات جانبا كبيرا من حساباتهم فى بثها. غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، وتأكد أن العلاقات بين البلدين لديها من الروافع الإستراتيجية ما يجعلها معصومة الآن، من أى تأثيرات سلبية، فهناك مجموعة كبيرة من القضايا المشتركة، تفرض التقارب والتفاهم، وهناك سلسلة من الأزمات الإقليمية تدفع نحو التكاتف والتلاحم، وهو ما حاول مدمنو التسريبات اللعب عليه، بغرض إحداث قطيعة، تحول دون التناغم بين القاهرة والرياض، وتوقف المساعدات الاقتصادية، التى ساهمت بدور حيوى فى تجاوز مرحلة كانت غاية فى الصعوبة، عقب ثورة 30 يونيو، وتمنع تدفق المزيد من الاستثمارات الخليجية، خاصة أن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى يعول عليها كثيرا . التسريبات المزعومة، لم تخل من فوائد سياسية، فقد كانت أول اختبار صعب يواجه العلاقات المصرية الخليجية فى عهد السيسي، وتم تجاوزه بامتياز، وأخذ فى طريقه الشوائب التى تناثرت بشأن وجود أزمة مصرية سعودية، وعزز القناعات المشتركة بضرورة الوقوف أمام العواصف التى يمكن أن تأتى من هنا أو هناك، وقدم فى النهاية دليلا عمليا بعدم الاقتراب من هذه الناحية، لأن كوابحها قوية، ومناعتها الطبيعية يصعب اختراقها، وكشف هذا الاختبار حجم القلق والتوتر الذى ينتاب جهات إخوانية وإقليمية ودولية من تنامى وتطوير العلاقات المصرية - السعودية. الطريقة التى تم بها عرض التسريبات، كانت أول مسمار فى نعش من وقفوا خلفها، وفضحت نياتهم الحقيقية، عندما جعلوا الجمهور الذى انتظرها، يتوقع أن هناك قنبلة سياسية يمكن أن تقلب الأمور رأسا على عقب فى مصر، وهو الوهم الذى لا تزال تعيش عليه جماعة الإخوان ومن لفوا لفها، فى الداخل والخارج، حتى إن البعض لم يعط لنفسه فرصة التمعن فى المضمون الذى تمت إذاعته، ولا النظر فى التوقيت الذى قيل إنه تم فيه، ولا حتى مكان الجلسة التى قالوا إن التسجيل تم خلالها، وكلها علامات تؤكد أن من أقاموا الحفلة الإعلامية لبث التسريبات، أرادوا الشوشرة على النظام المصرى والمؤسسات الوطنية، بعد أن قطعت مصر شوطا كبيرا من النجاحات، وسط ظروف مليئة بالتحديات. المهم أن الحصيلة التى تمخضت عنها المسرحية، ألقت بحجر كبير فى مصداقية المحطة، التى أخذت تعيد وتزيد التسريبات، ليلا ونهارا، وتجلب لها مجاذيب من الشرق والغرب، لتكريس انطباعات أنها صحيحة، حتى إن قطاعا ممن كانوا معجبين بإثارتها أصيبوا بالإحباط، وتأكدوا أنها تغرد خارج السرب، بل ومسئولة عن إدارة سيرك إعلامي، له أجندة سياسية لم تعد خافية على كثيرين، وتعمل أصلا على النيل من النظام المصرى بأى وسيلة أو ثمن، بصرف النظر عن نزاهتها، وهذه واحدة من المزايا المعنوية للتسريبات الملعونة، حيث رفعت الغطاء عن مدعى الحياد والموضوعية. من هنا يمكن فهم حكمة الصمت التى تحلت بها الأجهزة المصرية المعنية، فقد رأى كثيرون ضرورة الرد بحسم على التسريبات، وتوضيح حقيقتها مهما كانت، لأن المعركة قد تترك خلفها رواسب سياسية، لكن تجاهلها من البداية وضعها فى حجمها الطبيعي، وفوت الفرصة على من أرادوا جر مصر إلى مناوشات جانبية، وكانت الاتصالات الإيجابية التى أجراها الرئيس السيسى مع ملوك كل من السعودية والكويت والبحرين وولى عهد أبوظبي، أكبر لطمة على وجه من أرادوا فك التحالف المصرى مع هذه الدول. الحاصل أن الموقعة الأخيرة، ربما تسهم فى وقف خرافة التسريبات عموما، التى بدأت داخل مصر، عن طريق بعض الإعلاميين، واتسمت بقدر عال من تصفية الحسابات السياسية، ومحاولة حرق أشخاص، أصابوا أو أخطأوا، لكن فى النهاية وجودهم تحول إلى خطر على مصالح من رأوا ضرورة فى إخراجهم من المشهد، عبر مكالمات هاتفية، تلصصت على حياتهم الشخصية، ولأن من بثوا التسريبات فى مصر لم يجدوا من يردعهم، وحققوا شهرة واسعة، انتقلت هذه الثقافة بسهولة للإخوان، وحاولوا توظيفها واستثمارها مرارا، عندما تأكدوا أنها، حقيقة أو مزيفة، لها جاذبية عند فئة ليست هينة من الجمهور المصري. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل