يحل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ضيفاً على مصر فى زيارة رسمية بدعوة من الرئيس عبدالفتاح السيسى وهذه ثانى زيارة لبوتين للقاهرة ، والثالثة لرئيس روسى (زار الرئيس السابق ميدفيديف مصر فى يونيو 2009 ) . وكانت زيارة بوتين الاولى قد جرت فى ابريل 2005 فى وقت كان تفخر فيه موسكو بأنها حاضرة بقوة فى جميع النوادى العالمية وبدت عازمة على المضى قدماً فى نهجها الخاص على المسرح الدولى ، متكئة فى ذلك على اقتصاد قوى بعد سداد ديونها الخارجية وزيادة احتياطياتها من العملات الرئيسية لنحو 700 مليار دولار . وقد جاء العام المنصرم ليشكل علامة فاصلة فى وضعية الدولة الروسية فى الداخل وعلاقاتها الدولية، إذ أدت العقوبات الغربية المفروضة عليها وتدنى أسعار النفط ، فضلاً عن بعض المشكلات الهيكلية المزمنة التى يعانى منها الاقتصاد الروسى، الى دخول اقتصاد البلاد فى كساد وتقديرات بانخفاض الناتج المحلى بما يزيد على 5% وتضخم تتراوح نسبته ما بين 15 و20% وبطالة تعدت نسبة 8% وفقدان الروبل نصف قيمته فى مواجهة العملات الرئيسية . وتشير تقديرات خبراء كثيرين الى انه وإن كان الاقتصاد الروسى قد مر بظروف مماثلة ، أمكنه تجاوزها ( أزمتا 1998 و2008)، إلا ان الخروج من الازمة الحالية قد يستغرق وقتاً أطول كما ان التعافى منها سيكون أصعب . ويهمنى تأكيد انه بالرغم من هذه الاوضاع الاقتصادية الصعبة وانعكاساتها السلبية على الحياة اليومية للمواطن الروسى، فإن شعبية ضيف مصر اليوم وفقاً لاستطلاعات الرأى العام لم تتأثر. بل على العكس، حيث زاد قرار إعادة القرم للوطن الام كثيراً من شعبيته ( من 65% الى نحو 80% )، بعد ان أحيا الشعور القومى لدى المواطنين الروس ودفعهم الى الالتفاف حول رئيسهم وباتوا ينظرون الى العقوبات الغربية ضد بلدهم على انها نوع من الحرب تستوجب التماسك الداخلى والمقاومة الوطنية كتقليد روسى راسخ . وتمثل زيارة اليوم اللقاء الثالث بين رئيسى البلدين خلال عام واحد، حيث جرى اللقاء الاول فى قصر الكريملين فى فبراير 2014، والثانى فى سوتشى فى اغسطس من العام ذاته وسط مظاهر حفاوة وترحيب لم يسبق للجانب الروسى أن استقبل بها رئيس اجنبى منذ سنوات . وأثق بأن القيادة المصرية ستكون حريصة على رد التحية بمثلها . وتكشف هذه اللقاءات المتكررة عن احترام عميق وتقدير كبير متبادل بين القيادة فى البلدين، كما تعكس إرادة سياسية قوية بضرورة المضى قدماً فى تطوير العلاقات الثنائية فى مختلف المجالات. وما يهم هنا هو ضرورة ان تبذل البيروقراطية الحكومية ومجتمع الاعمال من الجانبين جهوداً حقيقية لترجمة هذه الارادة السياسية الى واقع ملموس يحقق مصالح اقتصادية وتجارية متبادلة يشعر بها المواطن العادى فى البلدين. وهنا أود الاشارة الى ما يلى بصفة خاصة :- 1- يلتقى البلدان حول ضرورات احترام السيادة الكاملة والاستقلال السياسى لكل منهما من خلال مواجهة أى نفوذ سياسى خارجى على الداخل وتبنى سياسة خارجية مستقلة تقوم على تنويع وتعميق دوائر الشراكات. وقد بدا هذا النهج واضحاً فى سياسة مصر الخارجية منذ تولى الرئيس السيسى الحكم ، بل وقبيل انتخابه عندما زار موسكو للمرة الاولى ، بجانب زيارات للصين وغيرها. فى المقابل، ومع التداعيات السلبية للأزمة الاوكرانية على علاقات موسكو بالغرب، بدا واضحاً أيضاً تحول روسيا صوب الصين وآسيا عموماً. وتمثل منطقة الشرق الاوسط أهمية خاصة لروسيا فى توجهها هذا لاعتبارات جيوسياسية واقتصادية عديدة. وفى هذا الاطار تتجه السياسة الخارجية الروسية نحو دول رئيسية فى المنطقة فى طليعتها مصر . حيث تدرك موسكو ان التنسيق والتشاور السياسى مع القاهرة يمثل أهمية خاصة لتحقيق مصالح روسيا الاستراتيجية فى المنطقة، والتى تتلاقى مع المصالح المصرية لاسيما فيما يتعلق بالحفاظ على الاستقرار من خلال ايجاد حلول سلمية لمشكلات المنطقة ونبذ التدخل فى الشئون الداخلية وتعزيز دور الاممالمتحدة فى تسوية المنازعات الدولية . وفى هذا السياق ستحظى ملفات الاوضاع فى كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن وعملية السلام بأولوية كبرى خلال مباحثات الرئيسين، فضلاً عن تعزيز التعاون بين البلدين فى مجالات مكافحة الارهاب والتطرف الدينى، الذى يمثل أهم محددات سياسة روسيا فى منطقة الشرق الاوسط، ان لم يكن اهمها على الاطلاق . 2- ارتباطاً بما تقدم ، من المهم التنويه الى انه بالرغم من انتقادات بوتين الشديدة للولايات المتحدةالامريكية وحلفائها وتحديه الواضح لنظام ما بعد الحرب الباردة بقيادة واشنطن، إلا ان توجهه الجديد فى سياسته الخارجية كان محسوباً . فقد وصف بوتين فى خطابه السنوى أمام مجلس الدوما فى 4 ديسمبر الماضى توجه بلاده نحو توسيع روابطها مع الدول غير الغربية بأنه «مكمل لروابط روسيا مع الغرب». ويعنى ذلك انه بالرغم من قسوة العقوبات الغربية، الا ان بوتين أراد الاحتفاظ بالباب مفتوحاً للقبول بتوافقات تحفظ له حداً أدنى من العلاقات بالدول الغربية دون التخلى عن ثوابت موسكو حفاظاً على مصالح روسيا مع الغرب. ولعل فى ذلك رسالة واضحة لمن يعتقد ان علاقاتنا بروسيا أو بالصين يمكن ان توفر بديلا عن علاقاتنا بواشنطن أو بشركائنا الاوروبيين. 3- بخلاف التعاون العسكرى والامنى الجارى بين البلدين منذ عقود، يظل التعاون الاقتصادى والفنى وزيادة حجم المبادلات التجارية وتعزيز السياحة الوافدة من روسيا بمثابة التحدى الاكبر الذى يتعين على البلدين الاهتمام به وتطويره، خاصة فى ضوء الصعوبات الاقتصادية الحالية فى روسيا. وفى هذا الصدد :- ومن المرجح ان يوقع البلدان خلال الزيارة بعض الوثائق الخاصة بإمداد مصر بالغاز الروسى واطلاق انشطة جديدة لشركة جازبروم فى السوق المصرية. تظل مسألة اطلاق مفاوضات بين مصر والاتحاد الاقتصادى الاورواسيوى (يضم روسيا وبيلاروس وكازاخستان) حول مشروع اتفاق تجارة حرة على رأس أولويات الجانب المصرى، خاصة انه منذ تقدم مصر بطلب فى هذا الشأن العام الماضى لم يطرأ اى جديد فى هذا الشأن . ومن الواضح ان الصعوبات الاقتصادية التى تواجه روسيا قد انعكست سلباً على الاتحاد الوليد بعد ان فرضت موسكو أخيرا قيوداً حمائية على صادراتها من القمح الذى تستورده مصر. يعانى قطاع السياحة المصرى من تدنى معدلات التدفق السياحى الروسى للبلاد (يمثل السياح الروس نسبة 25% من اجمالى السياحة الاجنبية لمصر) بسبب انخفاض قيمة الروبل الروسى . ويأمل هذا القطاع ان تسفر الزيارة عن إقرار ترتيبات عملية لتنفيذ صيغة اتفق عليها أخيرا وفقاً لها تقبل شركات السياحة المصرية السداد بالروبل والحصول على المقابل بالجنيه المصرى من خلال بنوك متفق عليها. يظل إقبال رأس المال والشركات الروسية على الاستثمار فى المشروعات الجديدة فى مصر، لاسيما فى مجالات النقل والطاقة بمصادرها المختلفة والسياحة وغيرها، مرهوناً بما ستقدمه مصر من مزايا وحوافز للاستثمار الاجنبى . والخلاصة هى أن هناك آفاقاً واعدة لتعاون مصرى روسى فى مختلف المجالات، وما يمر به البلدان من صعوبات هنا وهناك يجب ألا تشكل قيداً على فرص هذا التعاون وهى كثيرة ومتنوعة لاسيما ان الاقتصاد فى البلدين تكاملى فى الاساس وليس تنافسياً، كما ان مصر فى حاجة الى الخبرة الروسية فى بعض مجالات التصنيع والبحث العملى وتكنولوجيا الفضاء وغيرها الكثير . سفير مصر فى موسكو سابقا لمزيد من مقالات د. عزت سعد