لا يجيد مسئولو مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية، الذي اختتم دورته الثالثة السبت الماضي، الدعاية والتسويق لمهرجانهم وأنفسهم، ولا يعرفون فنون التلميع الإعلامي التي تجذب الاهتمام والرعاية لأحداث سينمائية مماثلة لا تقدم نصف ما يقدمون ولا تحقق نصف ما يحققون، على الأقل على المستوى الفني.. لذلك مرت الدورات الثلاث - بإيجابياتها الكثيرة وسلبياتها القليلة - بهدوء لم يوفها حقها، ولم يكن كافيا كذلك للإشارة إلى المشكلات التي عانت منها. والآن، يخفي الهدوء أسئلة ملحة ومحيرة تبدو بلا إجابات حتى الآن، وأزمات حقيقية تهدد مسيرة المهرجان الوليد، خاصة حرمانه من أهم قياداته، بعد انتقال رئيسته، الدكتورة ماجدة واصف، لرئاسة مهرجان القاهرة الدولي، واختيار مديره الفني، الناقد الكبير يوسف شريف رزق الله، للقيام بنفس المهمة في مهرجان القاهرة. وبسؤال الدكتور محمد كامل القليوبي، رئيس مؤسسة «نون» للثقافة والفنون، التي تنظم «الأقصر الأوروبي»، قال لي إن مجلس أمناء المؤسسة لم يفكر بعد في خليفتي واصف ورزق الله، مستبعدا تماما فكرة توليه الرئاسة، وأضاف أنه وزملاءه سيبدأون رحلة البحث عن القيادات الجديدة بعد إجازة قصيرة. وهناك مشكلة أكبر تعترض طريق المهرجان، وهي الأزمة المالية الطاحنة التي اشتدت وطأتها خلال الدورة الأخيرة، وانعكست في العديد من التفاصيل الخاصة بها، ومنها - على سبيل المثال - انخفاض عدد المدعوين المصريين والأجانب مقارنة بالدورة السابقة، وتغيير وسيلة انتقال بعضهم من القاهرة للأقصر والعكس من الطائرة إلى القطار أو الأتوبيس. وقال لي عدد من أعضاء مجلس أمناء مؤسسة «نون» إن أحد الأسباب الرئيسية للأزمة: سحب رجل أعمال معروف الدعم الذي قدمه العام الماضي، والبالغ 300 ألف جنيه، لتخصيصه جميع أمواله هذا العام للدعاية لحزبه في انتخابات مجلس الشعب! كما أكدوا لي أن بعض مسئولي المهرجان دفعوا من جيوبهم عشرات الآلاف من الجنيهات لإقامة الدورة الثالثة في موعدها، وذكروا الأسماء والأرقام، لكنني لست في حل من نشرها.. ومن المفترض أن يستردوا ما دفعوه، أو على الأقل جزءا منه، بعد صرف مبلغ الدعم الذي خصصه أحد البنوك الوطنية الكبرى خلال الشهور المقبلة، وإن كان ذلك غير مضمون بدوره! وفي ظل هذه الصعوبات، يصبح ما تحقق في الدورة المذكورة إنجازا بمعنى الكلمة، لكن لم يلتفت إليه أحد بسبب ما أشرت إليه من ضعف القدرات الدعائية والتسويقية لإدارة المهرجان، وعدم اهتمامها بدعوة النجوم وأنصافهم قدر اهتمامها بعرض أفلام جيدة وتنظيم برامج قوية. ومن ضمن ما تحقق، نجاح المهرجان في عرض عدد من أهم الأفلام الأوروبية في 2014 وضمها لمسابقته الرسمية للأعمال الروائية الطويلة، وأهمها على الإطلاق: الروسي «وحش البحر»، الذي فاز بعامود الجد الذهبي في ليلة الختام بحرم معبد الكرنك قبل ستة أيام، والجورجي «جزيرة الذرة»، الذي حصد الجد الفضي. والمعروف أن الفيلمين كانا ضمن القائمة قبل الأخيرة للأفلام المرشحة لأوسكار أحسن فيلم أجنبي، والتي ضمت تسعة أعمال، في حين ضمت القائمة الأخيرة «وحش البحر» فقط إلى جانب أربعة أفلام أخرى، وسط توقعات كبيرة بحصوله على الجائزة في حفل الأوسكار يوم 22 فبراير الحالي، خاصة بعد فوزه بالكرة الذهبية لنفس الفئة في 11 يناير الماضي. «وحش البحر» تحفة سينمائية حقيقية، ويستمد قوته من مناظره البديعة على البحر وفي أحضان الجبال، ومن السيناريو المتماسك الذي كتبه مخرجه أندريه زفياجينتسيف بالاشتراك مع أوليج نيجين، والذي فاز بجائزة أفضل سيناريو من مهرجان «كان» السينمائي الدولي في مايو الماضي، ويقوم على قصتين من العهد القديم للكتاب المقدس: الأولى قصة أيوب التي تطرح قضية العدالة الإلهية مقابل المعاناة البشرية، وبمعنى آخر تطرح سؤالا يبدو بلا إجابة هو: لماذا يعاني الصالحون الذين لم يرتكبوا أي خطيئة؟ أما الثانية فهي قصة رجل اسمه نابوت، من بلدة يزرعيل، كان يملك حقلاً زرعه كرماً بجانب قصر الملك أخآب، فطمع الملك في حقله وطلب منه أن يبيعه له ليضمَّه إلى قصره. ويُعد «جزيرة الذرة» تحفة أخرى، وهو من إخراج جورج أوفاشفيلي، ويدور بشكل فلسفي عميق حول دورة الحياة والموت والوجود والعدم من خلال نهر يبني على ضفافه الحياة ويعود ليفيض ويهدمها.. والنهر الذي اختاره هو «أنجوري»، الذي يمثل حدا طبيعيا يفصل جورجيا عن أبخازيا، وفي كل ربيع، يحمل التربة الخصبة من القوقاز ويُكوِّن جزرا صغيرة تُعد ملاذا للحياة البرية وأيضا للمزارعين المحليين. أما الجد البرونزي ففاز به الفيلم البريطاني «ستة عشر» للمخرج روب براون، ويدور حول الصبي «جوماه»، المحارب الأفريقي السابق، الذي جاءت به والدته طفلا إلى لندن.. ومع اقتراب عيد ميلاده السادس عشر، يبدأ في التكيف مع الحياة في المدينة، ويحاول التصالح مع ماضيه العنيف، ويكافح للتحكم في عواطفه عندما تبدأ أصداء ذلك الماضي في مطاردته. ومن بين تحف أوروبا أيضا، شاهد جمهور المهرجان فيلم «درب الصليب» الألماني للمخرج ديتريش بروجمان، والذي حصل على جائزة تقدير خاصة من لجنة التحكيم لما يتميز به من عمق جمالي وفلسفي.. وكان قد فاز بالدب الفضي لأحسن سيناريو من الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي الدولي. وفيما يخص مصر، حصل الفنان الكبير نور الشريف على شهادة تقدير خاصة عن الدور الإنساني المؤثر الذي قدمه في فيلم «بتوقيت القاهرة» للمخرج أمير رمسيس، والذي كان العمل المصري الوحيد المشارك بالمسابقة الرسمية للأفلام الطويلة بالمهرجان. وبشكل عام، شهدت الدورة الثالثة من «الأقصر الأوروبي» انخفاض عدد الأفلام المصرية الجديدة مقارنة بالدورة الماضية، وغياب العديد من الأعمال التي حققت للسينما المصرية نجاحات في المهرجانات الدولية العام الماضي، والتي كان من الممكن عرضها خارج المسابقات لتحقيق هدف رئيسي للمهرجان، وهو إطلاع الأوروبيين على آخر اتجاهات وإنجازات السينما المصرية. عرض المهرجان هذا العام خمسة أفلام روائية طويلة فقط من الإنتاج المصري في عامي 2014 و2015، لم يكن من بينها أي عرض عالمي أول، وشارك منها «بتوقيت القاهرة» فقط - كما أشرت - في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، بينما عُرضت الأفلام الأربعة الأخرى في قسم «ليالي السينما المصرية - عروض خاصة»، وهي: «الجزيرة 2»، للمخرج شريف عرفة، و»ديكور» لأحمد عبد الله السيد، و»الفيل الأزرق» لمروان حامد، و»قط وفار»، إخراج تامر محسن، والذي بدأ عرضه تجاريا قبل الافتتاح بثلاثة أيام، أي لم يحصل المهرجان على عرضه الأول هو الآخر، وهذا ليس عيبا في إدارته، بل في صناع الأفلام الذين تهمهم إيرادات أسبوع واحد في الشباك أكثر من منح مهرجان سينمائي وطني حق العرض الأول لأعمالهم. وفي فئة الأفلام الروائية القصيرة، شاركت أربعة أعمال مصرية في المسابقة، وهي: «ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375»، إخراج عمر الزهيري، والذي حصل على الجد الذهبي لهذه الفئة، و»حلم المشهد» لياسر شفيعي، و»ما تبقى» لسعد سمير، و»فرخة ولكن»، إخراج محمود حميده - وهو غير الممثل المعروف بالطبع، وأحمد ثابت وإسلام مظهر. وإلى جانب الأسئلة الخاصة التي تؤرِّق المهرجان، هناك المعضلة العامة التي ذكَّرتنا إقامته باستمرارها من دون حل، وهي عدم شعور الجماهير المصرية، خاصة في الأقاليم، بإقامة أي مهرجان سينمائي على أرضها، وبقاء تلك المهرجانات حكرا على الفنانين والصحفيين والنقاد، الذين يشعر بعضهم - وأنا منهم - بأنه تم نقلهم لمدينة بعيدة ليشاهدوا - وحدهم - أفلاما يمكنهم مشاهدتها في القاهرة، في حين أن جمهور المدينة المستهدف لا يعرف عن المسألة برمتها شيئا لضعف الدعاية أو سوء التنظيم أو أي سبب آخر. ورغم عدم وجود دار عرض واحدة في الأقصر، ورغم أن إقامة دور السينما وفتح مركز المؤتمرات وقصر الثقافة للجمهور من المطالب الأساسية لأهلها، إلا أن المشكلة ليست قاصرة على الأقصر، وتعاني منها حتى القاهرة التي لا يشعر بمهرجانها السينمائي سوى رواد الأوبرا فقط. إنها قضية قومية لابد من تضافر الجهود لحلها، وقد تكون الحلول بسيطة.. فسلطات مونتريال على سبيل المثال تغلق سنويا شارع «سانت كاترين»، أكبر وأهم شوارع المدينة، طوال فترة إقامة مهرجانها السينمائي الدولي، وتقيم في منتصفه شاشة عرض عملاقة أمامها عدد كبير من المقاعد لعرض أفلام المهرجان مجانا على الجمهور.. ويمكن أيضا إقامة عروض في النوادي والمقاهي وكل مكان، المهم أن تصل السينما للناس.