تزدهر الحرية ويسود السلم المدني، أو على العكس يزدهر الاستبداد ويسود العنف، بقدر ما تنضبط العلاقة بين الذاتية والموضوعية، وتتوازن بين الإنسان والعالم، وهو تطور يتوقف على أمرين أساسيين: أولهما: هو نضوج الذات الإنسانية، وقدرتها على طرح تصوراتها الخاصة حول وجودها التاريخى وواقعها الراهن، مضمنة فى تساؤلات من قبيل: من أنا وما علاقتى بالآخرين المحيطين بي، وكيف نشأ هذا المجتمع السياسي، وكيف آلت السلطة فيه إلى من يملكونها، ولماذا، وهل يمكننى أن أحوز قدرا منها وكيف؟. هذا الشعور العميق بالفردية وتلك القدرة على طرح أسئلة وجودية، يمثل اللبنة الأولى فى ثقافة الحرية. وثانيهما: غياب اليقين عن تلك الذات الإنسانية، لتبقى تصوراتها فقط فى نطاق الاحتمال، فلا تدعى امتلاك الحقيقة، إذ بقدر ما يطرح الفرد من رؤى ذاتية، يتعين عليه الإيمان بقدرة الآخرين جميعا - وليس المميزين فقط- على طرح رؤى متمايزة، وربما نقيضة. كما يتعين على الجميع إدراك أن تصوراتهم جميعا شيء، والحقيقة نفسها شيء آخر، فليست هى رأى أحدهم أو رؤية فئة خاصة منهم، وليست بالضرورة حاصل جمع كل تصوراتهم. بل إن بعض مستوياتها «المطلقة» غير قابلة للكشف، والمتاح منها على صعيد السياسة والمجتمع ليس إلا حقائق نسبية تحوز أقدارا متباينة من التوافق حولها. وفى هذا السياق يمكن تصور ثلاث حالات أساسية للوعى الإنساني، تبنى جميعها على مدى رسوخ التوازن بين طرفى هذه العلاقة: الأولي: هى حالة الوعى الراكد، الناجم عن غياب الشعور بالذات الفردية، والتى تسود غالبا لدى المجتمعات البدائية التى تفتقر إلى التخصص الوظيفى وتقسيم العمل، أو القبلية التى تهيمن عليها روح قطيع جمعية، يسود معها عقل اتباعي، يحول دون التساؤل والشك، حيث يسهل لنفر قليل من بين الجماعة الإنسانية، يدعون التميز «فى الأصل أو فى العقل»، طرح أسئلتهم وقناعاتهم الخاصة بهم وكأنها أسئلة وقناعات الجماعة كلها، بحيث تتخذ شكل الحقائق العقلية والوجودية وليس فقط التصورات الذاتية والنسبية. الثانية: هى حالة الوعى العنيف، الذى يسود مجتمعات تجاوزت الركود البدائي، ولكنها لم تبلغ النضج الحداثي، فهى غالبا مجتمعات شمولية تستند إلى نمط من العقل (ما بعد التقليدي). فى ظل هذه المجتمعات يتنامى الشعور بالفردية من مجرد الحق فى التعبير عن الذات بطرح التصورات وإثارة الأسئلة، سعيا إلى المعرفة والحوار، إلى الادعاء بامتلاك اليقين، حيث الرؤى الذاتية لأفراد بعينهم، والتصورات الذهنية لفئات خاصة من بينهم، تصير بمنزلة حقائق مطلقة لا يملك الآخرون سوى الخضوع لها. وهنا يتوقف الحوار ويخبو العقل وتبدأ الحقيقة فى رحلة الغياب الطويلة بشتى صورها الموضوعية والنسبية. أما الثالثة: فهى وعى الحرية، الأكثر إيجابية، حيث يتوافر للذات الفردية، تلك الشخصية الناضجة، القادرة على التساؤل والحوار ولكن من دون وقوع فى أسر اليقين. هنا يصبح ممكنا التحاور بين ذوات فردية متعددة ومتكافئة، حول حقائق نسبية ممكنة، على أصعدة السياسة والاجتماع والتاريخ، تستخدم فيه مفردات الاحتمال من قبيل: أرى وأتصور وأظن وتنتفى فيه مفردات اليقين: أؤكد وأجزم وأقر. كما يصبح متصورا نهوض الجماعة البشرية بصياغة تصورات مشتركة عن العالم، وإقامة أبنية تعبر عن هذه التصورات، وتلبى متطلبات إدارة حياة مشتركة يرتضيها الجميع وإن بدرجات متفاوتة، حيث يختفى الرضا المطلق لمصلحة رضا نسبى يعتوره بعض عوامل القلق تجاه ما تم التوافق حوله فى لحظة تاريخية ما من أبنية مجتمعية، وتكوينات سياسية، ومؤسسات ثقافية، وأهداف مستقبلية، حيث تدفع عوامل القلق هذه، مرارا، نحو إعادة النظر فى تلك الأبنية والمؤسسات والأهداف، بغرض تعديل مساراتها، وتصويب اتجاهاتها، لتحقق أهدافها بدرجة رضا أكبر، فلا تكون هناك حاجة إلى استخدام القوة أو العنف لقمع طرف من الأطراف المعنيين بها، والخاضعين لها، مادام كان المجال مفتوحا للجميع للتعبير عن رؤاهم. فى سياق هذه الأنماط الثلاثة للوعي، يتبدى لنا عمق المأزق الذى تعيشه مجتمعاتنا العربية، التى تجاوزت بالكاد عتبات وعى الركود، الذى صاحب تاريخها قرونا طويلة منذ هدأت ثورة الإسلام الحضارية، تحت وطأة الموروثات المجتمعية العتيدة، السابقة عليه، التى التصقت به ونالت تدريجيا من حضوره وحيويته. ولكنها، فى المقابل، لم تبلغ وعى الحرية، القائم على محورية الذات الفردية، والمؤسس للحداثة الاجتماعية والسياسية، ومن ثم وقعت فى المنطقة الرمادية، أسيرة لوعى العنف، المؤسس للإرهاب. فعلى عكس وعى الركود الذى يسمح لفئة ما بالهيمنة السلمية على مقدرات الجماعة، يمر وعى العنف بمحطات صعبة وقلقة، على طريق السيطرة القسرية على باقى فئات الجماعة الإنسانية، التى ترفض جميعها ادعاءات تيار واحد بالحق فى امتلاك السلطة السياسية بحسبانه صاحب الحقيقة المطلقة، وهو ما يفسر مناخات الشر والدم المحيطة بنا، حيث يدير العقل الإخوانى المتسلف، وتيارات التطرف المنبثقة منه والمتحالفة معه، الحرب علينا، على نحو يأخذ من طاقاتنا، ليصب فى خانة أعدائنا، ما يدفع بنا، من جديد، إلى ركود تاريخى وحضارى عميق. وهكذا تعيش مجتمعاتنا ما يشبه جبر التكرار، من هيمنة الأعراف والتقاليد البالية، إلى هيمنة التراثات الهامشية، وتأويلاتها المنحرفة، تلك التى ينشرها مشايخ التطرف ويتاجر بها أمراء الإرهاب، مادام ظل غياب المفكر الحداثي، بطل الإنسانية العربية الجديد، القادر على التبشير بالحرية، ليس لأنه لم يولد بعد، ولكن لأن الجماهير تأبى الإصغاء له، ولأن السلطة السياسية تكرهه، ولأن الضجيج الذى يصنعه مشايخ الفضاء وأمراء الفتوى يحجب الضوء عنه. لمزيد من مقالات صلاح سالم