إيه اللى جرالنا» سؤال طرحه على رجل عجوز أخذ منه العمر أكثر مما أعطاه، فقد أخذ أعز ما يملكه ألا وهو بصره، عندما رأيته يقف على جانب الطريق ممسكا بعصاه، وكل ما يطلبه فقط أن يأخذ أحد بيده ليعبر به الشارع، بعد أن أخذ وابلا من الشتائم من بعض المارة لأنه يعبر ويتردد فيعود لأنه وحده، ولم ينتبه أحد منهما أنه رجل مسن أعمي، فالكل بات مشحونا عصبيا مندفعا، لكنها لم تعد أعذار كافية لكمية التردى الأخلاقى الذى أصبحنا نعيش فيه، فقد امتد ليصبح فيروسا انتقل إلى أكثر شعوب الأرض أخلاقا وسماحة. اختفت المعالم التى اعتدنا رؤيتها مثلا فى وسائل المواصلات العامة، فقد اختفى ذلك الشاب الذى ما أن يرى رجلا عجوزا فتتبادر فى ذهنه صورة والده، فإذا به يهرول متنازلا عن كرسيه، واختفى أيضا الشاب الذى يترك كرسيه لامرأة حامل أو حتى لو لم تكن حاملا. أصبحنا لا نطيق الانتظار ونحن داخل سيارة حديثة مكيفة حتى يتسنى لرجل وزوجته وأولاده عبور الشارع، فما أن أفعلها حتى يبادر سائق السيارة التى خلفى بنعتى بأبشع الألفاظ التى أفيق منها على صوت «الكلاكسات» بلا انقطاع. «مثال آخر إنه فى السبعينيات كانت من أكثر العهود التى شهدت انفتاحا كبيرا فى زى المرأة وها هى سينما السبعينيات أكبر دليل على ذلك، ومع هذا فلم أسمع من والدتى ولو مرة أنه قام أحد من أبناء جيرانها بمغازلتها أو التعدى عليها رغم أنها لم تكن تسكن فى حى راق، بل فى حى شعبي، والمفارقة اليوم أنه خلال العشر سنوات الماضية انتشر الحجاب بشكل كبير جدا، كما انتشرت مساحة البرامج الدينية فى الوقت الذى شهد أعلى معدلات لجرائم الاغتصاب، فلم نحمل المرأة اليوم مسئولية اغتصابها?. إن بقاء الدول واستمرارها مرهون بتمسكها بالأخلاق، والتزام مواطنيها بالقيم الأخلاقية فى التعامل مع الآخرين، والعكس صحيح، فإذا تخلت الدولة عن السلوك الأخلاقى وآدابه فإنها تتراجع وتنهار تصديقا لما قاله أمير الشعراء أحمد شوقى «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا». إذا كان الكلام قد زاد فى الفترة الأخيرة عن الانفلات الأمني، فإن الانفلات الأخلاقى أكثر خطرا منه، لأن الانفلات الأمنى يمكن علاجه ببعض الإجراءات الصارمة، وعدم التهاون مع الخارجين عن القانون، والتعامل معهم بكل حزم، وإننا على يقين أن الدولة قادرة على استعادة الأمن الوطنى فى أقرب وقت، أما الانفلات الأخلاقى فهو أكثر صعوبة فى علاجه، لأن الأخلاق مسألة تربية تنشأ مع المواطن منذ صغره وتقع مسئوليتها فى البداية على الأسرة ومعالجة هذا الانفلات الأخلاقى يحتاج وقتا وجهدا من الجهات المعنية كالأسرة ورجال الدين وأهل الفكر والمدرسة والإعلام، حتى لا تتوارثها الأجيال. وعن مراحل التحول تاريخيا فى أخلاق المصريين يذكر الدكتور وسيم السيى أستاذ جراحة الكلى والمسالك البولية والباحث فى علم المصريات أن الحقبة الفرعونية وبالتحديد عام 5619 قبل الميلاد حقبة رائعةفيكفى أن المصرى كان يعرف أنه سيمثل أمام محكمة العدل الإلهية التى تتكون من 42 قاضيا يمثلون 42 إقليماً. ويرى أننا فى حاجة إلى قرن من الزمان لكى نصل إلى هذا المستوى الرفيع من الحضارة والأخلاق. ومما يدل على المستوى الرفيع لأخلاق المصريين فى تلك الحقبة النصوص المسجلة على الآثار وكانت بمثابة دستور يحكم التعامل بين المصريين ومنها »لم أكن سبباً فى دموع إنسان أو شقاء حيوان أو تعذيب نبات نسيت أن أسقيه ماء.. لم أتعال على غيرى بسبب علو منصبى أو أرفع صوتى على غيرى أثناء الحوار ولم ألوث مياه النيل ولم أسرق ولم أكذب.. إلى آخره. وكان يساعد المصريين على ذلك وجود نظام قضائى رائع فيكفى أنه كان من الممكن تشكيل لجنة من القضاة لمحاكمة الأسرة المالكة نفسها، كما حدث فى عهد رمسيس الثالث. فكان القانون فى مصر القديمة عالمياً فى مراميه عادلاً فى أحكامه صافياً فى مواده، فقد أصاب هذا القانون المؤرخين بالدهشة والإنبهار حيث أنه قام على دعامتين أساسيتين، وهما العدل أساس الملك والعدالة الاجتماعية، فالكل أمام القانون سواء بسواء. وينتقل الدكتور السيسى إلى فترة الغزو الفارسى والغزو اليوناني، فى الفترة من 300 قبل الميلاد حتى 300 بعد الميلاد كان المخزون الحضارى المصرى لا يزال يعمل لدرجة أنه قام بتمصير اليونانيين، وهذا ما قاله الدكتور طه حسين فى كتابه »مستقبل الثقافة فى مصر« مؤكداً أن اليونانيين يعلمون جيداً أنهم تلاميذ للمصريين فى حضارتهم القديمة، وهذا ما أكده سولون وهو رجل يونانى تعلم القانون فى مصر وكتب قائلاً »أخذنى أحد الكهنة وأرانى منزل أفلاطون الذى عاش فيه أفلاطون فى مصر 13 سنة، وقال الكاهن لسولون »نحن من علمنا أفلاطون الفلسفة طوال 13 سنة، ثم ربت على كتفيه وقال »أنتم أيها اليونانيون أطفال بالنسبة لنا«. حتى جاءت الحملة الفرنسية وهى حملة وليست غزوة، فقد جاء نابليون ببارجة تحمل 178 عالماً وقام بوضع مفاهيم جديدة للمواطنة والأخلاق ونظام الحكم وكان ذلك عام 1798 ، وبعد 7 سنوات وبالتحديد عام 1805 جاء محمد على باشا مؤسس مصر الحديثة، وقام بعمل نهضة كبيرة عادت خلالها أخلاق المصريين وتحسنت عن ذى قبل، لأنه أعاد للقانون سيادته. فالأخلاق كما يوضح السيسى ترتبط بالقانون، لأن القانون يتحول إلى ثقافة، ومن هنا فإن سيادة القانون هى أساس الأخلاق. أما الدكتور قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى فيقول باستمرار كل جيل يرى أن أخلاقه أفضل من الجيل الذى يليه، فلو تذكرنا كيف أن الجد كان يرى أن الأب منفلت الأخلاق لأنه مثلاً لا يرتدى «الطربوش»، والأب كان يرى الإبن منفلت الأخلاق لأنه لا يقبل يده، والابن يرى الحفيد منفلت الأخلاق لأنه يناديه باسمه ..إلى آخره. فهو يرفض فكرة أن أخلاق المصريين ضاعت فلو تحدثنا عن أن الناس حولنا يستخدمون ألفاظاً سوقية ويتبادلون نكاتاً خارجة فالسؤال هو: هل هذه ظاهرة جديدة؟ بالطبع لا فهى ظاهرة قديمة فنحن حين نتحدث عن أخلاق شعب ينبغى أن نتذكر أن هذا الشعب هو الذى قام بثورتين ناجحتين الفترة الماضية، كذلك كيف يمكن لشعب لا أخلاق له أن يدفع من حر ماله أكثر من 60 مليار جنيه لتمويل قناة السويس. فعلينا أن نفرق بين الخروج على النظام وبين انعدام الأخلاق، فمثلاً مشكلة المرور لا تعتبر مشكلة أخلاقية حتى إذا كان بها جانب أخلاقى ولكن أساس المشكلة الطرق والكثافة السكانية وعدم الصيانة أو الاهتمام بتدريب السائقين، فكل هذه العوامل تفرز مشكلة المرور، وليست الأخلاق فقط. وترى الدكتورة نجوى الفوال أستاذة الإعلام السياسى بالمركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية أن مواجهة التردى الأخلاقى الذى ينتشر فى مجتمعنا الآن لا يواجه إلا بإصلاح التعليم وأن يعود التعليم عملية جديدة وبغرس قيم معينة كنبذ العنف واحترام الجار والكبير والصغير، وكل هذه القيم كانت مكتوبة على غلاف «الكراسات» التى يستخدمها التلاميذ. كذلك تؤكد أن العدالة الناجزة وتنفيذ القانون على الجميع من أهم عوامل تغيير المجتمع للأفضل، وعلى وسائل الإعلام دور أيضاً فى عدم استباحة استخدام الألفاظ الخارجة سواء فى البرامج أو فى الأعمال الدرامية المختلفة سواء التليفزيونية أو السينمائية.