مصادفة تقابلا. بكتل البشر ... بالباعة بالعربات المكدسة فوقها البضائع ، كاد الشارع يختنق، رأها فتقافزت الفرحة في عينيه ...ان يكبتها جاهد. فضحه صوته المتهدج . • أهلاً عايدة. استراحت الكف في الكف • اهلاً مصطفي • أخبار بابا وماما و... بالراحة ارتوت النفس لما التقطت اذناها دفء الصوت .... • الحلمية كلها بخير . الحلمية ...؟! يا اااه ... أيام الصبا الحلوة بكل مرحها وانطلاقتها ... شارع راتب وعلي بك الكبير ، والمدرسة المحمدية ، والبنت الصغيرة الحلوة ... ابتسامتها ، ضحكتها ، ضفائرها، شقاوتها ، وصباح الخير ياعايده. كنت أقولها لما كان وجهها يطل عليّ وهي تفتح شيش النافذة لشمس الصباح. • صباح النور كانت تقولها وتجري ... تحتمي بالجدران ... تجري عيناي وراءها فتلتقطان الوجه الضاحك من وراء طاقة الحمام المستديرة . ... إيه ، أيام • مصطفي ... أين ذهبت ؟ • لا ... ابداً ... • أكاد أختنق من هذا الزحام . • لنهرب منه . • ... • الي أين أنت ذاهبة ؟... • ( أنا هاربة من نفسي ومن البيت ومن كل شئ ... أبغي ان أهيم علي وجهي في بلاد الله الواسعة ، تحملني بلاد الله الي بلاد الله ... الف وادور وادور وادور حتي أجد نفسي ) • عايدة . • ليس لي هدف. • نذهب الي الفيشاوي . الي السماء رفعت عينيها تبحث عن طاقة النور التي سمعت امها تحكي عنها في ليالي الشتاء الطويلة لما تطلب منها ان تحكي لها حكاية... وفي ليلة من ليالي الشهر المفترج وقف وحده ... عيناه مرشوقتان في السماء للبارئ اتجهت كل جوارحه ... خطفت طاقة النور التي شقت السماء بصره ... من قلبه التقطت اذناه مناجاته للخالق . • عايدة ...؟ التفتت فاطلت عليها القباب والمآذن السامقة ... الجامع الأزهر ومحمد أبو الدهب و الحسين ... الدور القديمة ، المشربيات الاربيسك ، محال الفطائر ولحم الرأس ومكتبات القرآن... جرت خطواتهما فاحتواهما شوارع خان الخليلي الضيقة ...المشغولات اليدوية ، رأس نفرتيتي ، مراكب الشمس ... بالفرحة والرهبة شعرت ... ان تقفز ، ان تجري ، ان تطير ، ان تقرأ فاتحة الكتاب امام ضريح الحسين ... ان تركع ...ان تسجد للخالق البارئ ... ان تبكي وتبكي حتي ترتوي النفس بالراحة وتهدأ تمنت ... مية سبيييل ... من عالمها جذبها الصوت المنغم ... تعثرت خطواتها وهي تنظر الي الوجه الرائق ... تمتد يده لها بالكوز المعدني اللامع ... تناولته ... سرت برودة الماء بروح الورد في اجزائها ...سرت الراحة في كل كيانها • الله ... لم أذق أرق من هذا الماء . قبل ان تمتد يده بالقطعة المعدنية له كانت قربة الماء ترتج فوق ظهره وخطواته آخذة في الابتعاد ، والكلمة المنغومة من فيه تتمطى في الفضاء ... سبيييل من عينيها تدحرجت حبات الدمع ، وهما مرشوقتان في ظهره المحني وساقيه النحيلتين وتتمتم الشفتان : مازالت الدنيا بخير ... التوت الأقدام مع الدروب ... تلامست اصابع اليدين ... تسرى الرعشة في أوصالها . الح علي رأسها بوجهه اللزج ... صوته الزجاجي : احبك . لحظة يتكدر وجهها ... همست : وغد . أنت اجمل ما في الوجود . حقير سعادتي اجدها بجوارك . ( كانت آمالي تسبق خطوي لما كنت اسير بجواره ، الي القمر اطير لأرشف من ضوئه ، اعود فاجري نحو النهر ... تحتضن مياهه قدمي ويدغدغني رذاذه ، فاتشبث بساعده ، لكني فجأة اجد اخري متشبثة في نفس الساعد ... في اذنيها يسكب نفس الكلمات : سعادتي أجدها بجوارك) . انتشر زذاذ البصقة فوق اسفلت الطريق... • لا ... اكيد هناك شىء غير طبيعي. الي وجهه رفعت عينيها ، ملأت البسمة صفحة وجهها لما تذكرت مقولتها عندما كانت تسترق النظر الي وجهه النحاسي الغامق من وراء خصاص الشيش « رمسيس يطل علي رعيته « احتواهما المقهي العتيق ... ينزل الفيشاوي الكبير من علي ظهر فرسه ليستقبلهما ... شعرت بخفقان قلبها لما كانت عيناها تجولان في ارجاء المقهي ... أركانه ، ستائره الخرزية ، المقاعد الأرابيسك، المناضد ، صواني الشاي النحاسية ، النراجيل .الصمت يغشي المكان فيزيده رهبة. ان يسري عنها اراد ، فقال : لو جئت الي هنا في رمضان ما استطعت ان تفوزي بمكان لاحدى قدميك ... تصوري كل الناس تكون هنا ... شعراء وكتاب قصة وروائيين ومهنيين وحرفيين ، احتوتهما احدى الغرف ... فوق قرص المنضدة المحلى بالخزف استراحت الاذرع ... • ماذا تطلبين . • شاي أخضر . في بعضها غرقت الاعين ... كل راح يبحث عن صاحبه في قيعانها ... طال امد الصمت ... قطعته بقولها : • كلمني عن نفسك يا مصطفي • انا ...؟مجرد واحد يأكل ويشرب وينام . ( نفس معاناتي ... ولكن لماذا ...؟ هل غررت به واحدة أيضاً ؟ ) • واحد... ؟ ! ولماذا لم تقل انسان ...؟ • انسان ؟ ليس تماماً • ماذا تقصد ؟ • افتقد قلبي ، فلا اجد ذاتي • ... • وماذا عنك ...؟ • ... • اتذكرين يوم ان قابلتك ذات مرة وانت عائدة من المدرسة ، عند سور الخديوية ، قلت لي يومها والقلق باد علي وجهك : شعوري بالاغتراب يتضخم كل يوم بداخلي . اربد وجهي منزعجاً ... ان يكون شعوراً سرطانياً يتفتت خلاياه بين جيلنا خفت . ... • هل سأظل اتكلم وحدي ... ؟ • ... • فيم تفكرين • في انسانيتي. • عظيم انك تحبين • أحب ...؟؟!! • أجمل مافي الوجود ان يجد الانسان قلبه ... ان يلتقي روحان ينصهران ويتحدان ، فيصيران روحاً واحدة في جسدين . ( كنت اظن اننا صرنا كذلك ) زفرت ألماً ... • عايدة احسست بلمس اصابعه لأصابعها فجاءت من البعيد ... قالت حتى هذه اللحظة كنت اظن انني انسانة. • ... • لكن يبدو اننى كنت مخطئة فروحي لم تنصهر في روح أخرى... • ... • ياخسارة • لا .... انني احسدك على ألمك، على مجرد احساسك بان روحك الثانية سوف تأتي فهذا عظيم في حد ذاته . • ربما كنت سأشعر بالسعادة لو كنت اخبرتني بأنك عثرت على روحك الثانية بعد طول انتظار ... • هذا النبل لايكون إلا لإنسان رائع ... • اخجلتم تواضعنا ... لم يخف الضحك الحزن النائم في عينيها . • لماذا تنظر اليَّ هكذا ... ؟ • كأني أراك لأول مرة ... زوت مابين الحاجبين حتى كادا ان يتلامسا . ملَّت الشمس رحلتها الابدية ... انهكها الدوران فأرادت ان تستريح ... ارتدى القرص الواهن ثوبه الرمادي فغام الضوء ... أردف قائلاً : ابتعدنا ما فيه الكفاية ... أليس كذلك ....؟ • نعم • سأراك ثانية ...؟ • لنبحث معا عن انفسنا ... • وقد بدأنا خطواتنا الأولي . ضحكت ... ضحك ... مدت له يدها ... تعثرت خطواتها المتوغلة في شارع بورسعيد ، فميدان باب الخلق وهي تسترجع كل كلامه ... تدب خطواته مخترقة ميدان العتبة الي شارع الجيش ... الراحة مبسوطة على صفحة وجهها ، والقمر ينثر ضوءه فيبدد ظلمة السماء الداكنة.