وراء الباب 1 وراء الباب نقف، أنا وأنتِ، الباب الخشبي العتيق يفتح علي ممر طويل في نهايته غرفة مغلقة، لا نريد أن ندخل الغرفة ولا أن نعبر الممر، نريد فقط أن نطرق الباب، مرة أنت بالداخل ومرة أنا. أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق، ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق. في هذه الأثناء القصيرة كنا قد زعبرنا بحرا وقف الآخرون بساحلهس. 2 فتحوا الباب فهبّت أربعة جراء متشبثة بقدميه، انحني عليها وعندما رفع بصره كانت الجراء قد فرت إلي مكان بعيد. كان الوقت مساء وكانت هي قد خرجت إليه. أغلقوا الباب وتحت جلده وضعوا دودة هائلة، لم يشعر بها أول الأمر. في مساء آخر قريب خرجت الدودة، بصعوبة بالغة في البداية، حتي ظنها بعوضا ينقر الجلد ويفر هاربا. عندما أمسك الدودة بيديه كان الباب قد أغلق من جديد وكانت هي قد خرجت إليه والجراء فرت إلي مكان بعيد. 3 أفتح النافذة التي تطل علي حديقة صغيرة، الحديقة الصغيرة تطل علي حديقة أكبر والحديقة الأكبر تطل علي حائط باهت بارتفاع عشرة طوابق. إذا ما مددت البصر فسوف أصطدم بالحائط مباشرة ولكي أؤجل هذه اللحظة التعيسة فإنني أخفض بصري ناحية الحديقة الصغيرة التي لا أود استهلاكها بنظرة واحدة ومن ثم أفتح النافذة أولا، أحدق في زجاجها لدقائق ثم في شيشها الحديدي وبكل هدوء أخفض بصري ولا أرفعه حتي ينتصف النهار، ساعتها أمضي إلي الحديقة الأكبر. هنا شجرة زيتون وارفة وبجانبها شجرة ليمون، أحدق فيها مباشرة وهي تكاد تسقط بأغصانها، الشجرة نفسها التي جفت تماما حين بلغت السادسة من عمري كانت هناك قابعة باصفرارها الذي خيب آمالي، كان مرعبا أن تحب شجرة تعرف أنها تموت يوما بعد آخر، المياه التي كنت أرشها عليها كانت تتشربها الأرض وفي صباح اليوم التالي تهزل أكثر، أحيانا كانت تنتعش للحظات، أوراقها المصفرة تتمايل مع الريح ويبدو أنها أخيرا ستستحيل إلي خضراء، بل إنها كانت تخضر أحيانا لكنها ما تلبث أن تخذلني وتجف فجأة. الشجرة نفسها أراها اليوم بالاصفرار ذاته، بالجفاف، بالموت القادم لا محالة عما قريب، أراها من نافذة غرفتي، في نظرتي الثانية الممتدة إلي الحديقة الأكبر، غدا سوف تموت شجرة الليمون ولن يبقي أمامي سوي الحائط الباهت، أما شجرة الزيتون الوارفة فلا تعنيني بالمرة، الحقيقة أنني لا أراها وإذا ما رأيتها فكشجرة تخص حديقة أخري لا تقع في مرمي بصري في هذا الصباح غير الممطر والذي يجعل من حياتي صندوق أحذية متربة يمتد أسفل السرير. عصفورة بائسة تقفز فجأة وتحط علي شجرة الليمون، تتنقل بين فروعها بخفتها وزيغ عينيها ولا يبدو أنها تفكر للحظة في الشجرة الوارفة بجانبها، في العراء تقريبا تضع عشها، العش الباهت فوق الشجرة الباهتة أمام الحائط الباهت في هذا اليوم الباهت الذي لم تمطر فيه ولم تطلع له شمس. الشجرة الذاهبة إلي حتفها كانت بعيدة عن المياه، المياه تهبط إليها لكنها تنساها، تتركها هناك حتي تأتي شجرة وارفة ودون استئذان تسحب المياه كلها إليها والأخري تنظر فقط ولا تعلق، تري طعامها في أفواه الآخرين وتمعن في الصمت. أغلق النافذة من جديد، أولا الشيش الحديدي ثم الزجاج، أقول وداعا لشجرة الليمون، وداعا يا شجرتي العزيزة، ربما التقينا في عالم أفضل أكون فيه شجرة ليمون وتكونين فيه شخصا يرص الكلمات بجانب بعضها في الليل ويبكي، لكن لا تقلقي، غدا سأفتح النافذة من جديد وستكونين هناك باحتضارك اللانهائي وأفراخ العصفورة فاتحة فاها والعصفورة حائرة في توزيع الطعام وطعامك بكل تبجح تسحبه شجرة زيتون وارفة. 4 أنا هنا في الصالة وأنت نائمة منذ عشر دقائق، فجأة يلفحني الحنين إلي تقبيل رأسك، أدور في الصالة شمالا ويمينا، أتخبط في الأثاثات، أتجرجر علي الأرضية الخشبية حتي أصل إلي حافة سريرك وبكامل جسدي المجروح أقبع هناك. نقطة دم وحيدة تنسل من إصبعي لتسيل علي جبهتك، تفتحين عينيك وتشربينها، تنسل نقاط أكثر تشربينها كذلك حتي تجف كل الجروح، ساعتها تعاودين النوم وتحلمين أن نقاطا حمراء كانت تنقط عليك من السقف وأن بللا دافئا كان يلفك. في الصباح تتحسسين العرق فوق جسدي النائم وتحبينني أكثر. 5 إذا ما أحببتكَ أكثر فسوف تنسي قدمي المشي جملتكِ العابرة هذه وتَّدَت الغرغرينا في رجليّ والآن يصبح بيتك القريب ذلك البيت خلف منزلنا القديم والذي حاولتُ التسلل إليه عشرات المرات دون جدوي، وعندما تمكنت أخيرا من صعود سلمه الحجري أصابني الرعب، لا من خيوط العنكبوت ولا حتي من الشقوق التي تقبع بها ثعابين متحفزة، بل من تصلب الرجلين كما في حلم، من نسيان المشي والحجارة والبيت نفسه. 6 اليوم رأيت كينونتك بعيني وأنا أعد الطعام. الكينونة هذه التي طالما أفزعت نومي وجعلتني أراني كنقطة معلقة خارج الأرض دون عظام ودماء، وصوتٌ من العدم يهمس لي: HOMO. ECCE كينونتك الطائشة في الفراغ اليوم رأيتها بعيني واهتززت في مكاني، تأكدت أن في هذه النقطة البعيدة تكمن حياة لن يمكنني أبدا أن أدخلها. 7 حدقتكِ نفسها تنكمش في النهار وتتسع في الليل. أفعي الشك ستبقي نائمة تحت سريرنا، أحيانا نداعبها فتفغر فاها مهددة وأحيانا نتركها هناك مئتنسين بحضورها العنيف. الأفعي أبدا لم تنفث سمها وإلا لكانت الحدقة قد اختفت تحت عين مغلقة نهائيا دون نوم وبجانبها يتمدد جسد نحيف يهتز كمجنون. 8 لشهور طويلة يتلوي من آلام لا يعرفها، تُطْلَقُ عليه من جميع الجهات. لشهور طويلة كان هدفا خشبيا للتمرين علي ضرب النار. الرصاصات تنبجس في مواضع مختلفة لكنه فكر: الألم هو مجرد ألم مهما تضخم أو امتد فلن يكون له اسم آخر. 9 كنا نفكر أحيانا أن جملة مقتطعة من كتاب ستعيد التوازن لكل حياتنا، نستعيدها لمرات حتي نطمئن علي عملها ثم نجهد باحثين عن أخري. الجمل تئز في رؤوسنا، ترطبها وتجعل من صباح اليوم التالي ملعقة من العسل نتقاسمها بارتياح علي عشب الحديقة العامة ثم ما تلبث جملة جديدة صنعناها سويا أن تحل محل الجميع جملة صغيرة تزودنا بليلة أخري كأن أقول : ولِمَ لا؟ أو أن تقولي: ليكن ما يكون! 10 يمنح العاشق نفسه طويلا، في معظم الأحيان لا ينتظر شيئا في المقابل. لكن ما إن يأكل الخوف روحه حتي يتوقف للحظة في انتظار مردود عمله. هنا تسقط الطَّوَّالَة الخشبية التي ترفعه عشرات السنتيمترات عن الأرض، هنا يعود صغيرا ويري نفسه في المرآة ولا يفرح. تمنح العاشقة نفسها طويلا وغالبا دون انتظار شيء في المقابل. في لحظة يتسلط الشك علي روحها، تقول إن عطاء أكثر سيجعل مني صندوق قمامة لن يحفل به كثيرا. هنا تضع هي الطَّوَّالَة الخشبية وتعلو عشرات السنتيمترات عن الأرض، تري نفسها في المرآة أكبر مما كانت عليه ولا تفرح. 11 هو يود أن يلمس هذه النقطة التي تحرك أحشاءها المتشعبة، يؤمن أن نقطة كهذه لابد أن تكون قابعة في موضع ما وأن عليه فقط أن يجهد في البحث عنها وما إن يجدها حتي ستأخذ كل إيماءة أو فكرة مكانها في الكتاب المفتوح الذي يود أن يقرأه بتمهل ساعة الغروب. هي لا تبحث عن نقطة واحدة بل عن نقاط عديدة تعرف أنها تشكل كيانه الغريب. تؤمن أن كل نقطة علي صلة بالأخري وأنها ستكون منها خريطة ستعود إليها كل ليلة مرارا وتكرارا. 12 تخرج أولا من سلسة الظهر وتمضي في مسارات تخصها قبل أن تقبع هناك أحجارا علي الصدر تتسرب منها مياه مالحة إلي البطن وتظل تعمل طوال النهار. الخيالات ماضية في طريقها المحتوم كنسوة ذاهبات إلي المقابر يوم العيد، يتشحن بالسواد ويعدن في المساء بعد حوار طويل مع الموتي يعيد إليهن ابتسامة وغمزة عين وراحة في باطن القدم لم يعرفنها منذ زمن طويل. 13 النهر الذي يمتد تحت بطنك أحيانا تُسْمَعُ مراكبه وهي تسبح في رحلة نصف مضاءة نحو المجهول تغطيها سموات تنقط من حين إلي آخر بعض المياه. أحيانا حين يصطخب النهر وتظلم رحلة المراكب تحت السماء العاصفة ألمح ابتسامة خفيفة علي شفتيك والسِّنَّتان الأماميتان تضيئان للحظة قصيرة تماما كاللحظة التي تتأهبين فيها لتقبيلي. نهر آخر يمتد فوق بطنك نهر من زغب لا يُرَي ولا يُمَس أراه وألمسه أنا عقلة إصبع صغيرة فوق بطنك أنا مركبة شراعية أنا رغوة النهر في مصبه الأخير. 14 كان قد خرج ذلك اليوم من ملابسه التي وضعها علي كتفها، كان كمن انتبه فجأة إلي أنه يُرَبّي دجاجات ميتة تحت جلده، لا تكف عن النقيق في صمتها الأبدي، نقيق صادر عن الحركة وليس عن الصوت. الخروج من جلده كان يؤذن بمعارك طاحنة يعرف مسبقا أنه خاسرها، خرج مع ذلك ووضع ملابسه فوق كتفها. حين مشت بملابسه بضعة أمتار كان يتناهي إليها صدي الدجاجات الميتة وغبار المعارك، لكنها خطت بضعة أمتار أخري. أحيانا يرجع وحيدا، نظيفا من الريش والغبار اللذين ينتظرانه علي عتبة البيت. 15 ظننت في لحظة عماء مطلقة أن أمرا جللا يقبع في علبة هدايا مغلقة، أدور حول العلبة وبكل شغف أتحسس ورقها اللامع وشريطها الزاهي أتركه هناك لحين بينما تصطك ساقي شوقا وحين أبدأ أخيرا في فك الشريط ونزع الورقة اللامعة يكون قد مر وقت كاف حيث لم أعد أنتظر شيئا من العلبة، أفك الشريط وأنزع الورقة لأجد علبة أصغر بالشكل نفسه، أفكها محموما لأجد علبة أصغر وأصغر، في مزحة سخيفة لا تكف عن التكرار. 16 حان وقت الراحة كانت الشعيرات الدقيقة قد قررت فجأة أن تهدأ المعارك الخاسرة ذهبت أدراج الرياح. خرج الرجل المفعم في ليلة أقل من عادية ومشي عدة خطوات بحذاء المنزل، كانت تقف وراء الباب، لم يلتفت إليها. الذين مشوا الخطوات نفسها قبله، في أزمنة بعيدة وقريبة، كانوا يدفعون قدميه وكانوا تحديدا يبدلون طريقه المحتوم المفضي إلي مقبرة أو قاع نهر، كانوا يزحزحونه خطوات ليرجع من جديد إلي الباب حيث لم يعد أحد وراءه. 17 شعراتك الساكنة في السرير، في الحمام، علي ملابسي، فجأة ودون انتظار لملاقاتها أجدها هناك تلمع في وجهي. منذ قليل كانت تنتمي إليكِ، كانت تشكل جزءا صغيرا من كينونتك والآن تنتمي إلي لأنها تلمع في وجهي، تسبح هائمة وحدها في البيت. أدور خلفها، أسحبها من مداراتها، أمعن فيها للحظات وأطلقها ثانية في الهواء، لن تعود مرة أخري إلي جسدك لكنها كذلك لن تغادر بيتي.