حدثنى صديق عربي، أن مصر حققت نجاحات سياسية مهمة، على مستوى السياسة الخارجية، لكن لأنه يرى العالم جيدا، حيث يقيم بإحدى العواصمالغربية، فاجأنى بعدم اقتناعه أن تكون مصر مؤثرة فى محيطها الإقليمي، طالما بقيت مصرة على قياس أزمات الآخرين على مسطرتها الذاتية، وتتغافل الآخرين.وقبل أن أسأله كيف؟ تابع أنها تبدو مشغولة بالمشكلات العربية، لكنها فى حقيقة الأمر غارقة فى همومها الداخلية، لذلك لن تتمكن من تحقيق إنجاز كبير فى الأزمات العربية التى لديها مقاربات سياسية تجاهها، مثل ليبيا وسوريا واليمن، أو يقدر لها أن تكون فاعلا إقليميا قويا، ما لم تتجاوز عقدة المشكلات المحلية، وتفهم جيدا أن المساطر التى يقيس بها الآخرون أزماتهم، ليست بالضرورة أن تكون هى ذات المسطرة المصرية، فلكل دولة حسابات مختلفة، وفى كل دولة مؤثرون أساسيون وهامشيون، وأطراف قد تعرف أعدادها، لكن يمكن أن تفشل فى معرفة أولها من آخرها، والتفاصيل الدقيقة لوزن كل طرف، وحجم تأثيره فى الواقع، وهو ما يجعلك (يقصد مصر) تواجه صعوبات فى النتيجة النهائية، فالخطوط العريضة فى خرائط متشابكة ومتغيرة، لا تكفى لصناعة نجاح سياسى راسخ. أخذت كلام صديقي، وطبقته على ما وصلت إليه علاقات مصر الخارجية، فوجدت أن له ظلالا كثيرة من الحقيقة، فنحن تجاوزنا سلسلة من العقبات الإقليمية والدولية بمهارة، فى الجزء الذى يخصنا، لكن لا يزال أمامنا شوط طويل، للوصول لدرجة متقدمة من التأثير، والتحول إلى لاعب محورى فى المنطقة، لأن الآخرين لهم رؤى ونظرات، لا تتماشى مع الخط المستقيم للمسطرة التى نقيس بها حجم أزماتهم، فنحن اقتربنا كثيرا من الأزمة الراهنة فى ليبيا، وكدنا نصدق أن مفاتيح الحل والعقد التى فى أيدينا تكفى لحلها، ثم فوجئنا بطوفان من العراقيل، حال دون الاقتراب من تسويتها، بموجب المبادرة المصرية. هكذا يبدو حال علاقتنا مع الأزمة السورية، وربما بعض الدول الخليجية. فالتفوق فى مجال السياسة يتطلب مراعاة خصوصية الآخرين، وماذا يريدون. استهوتنى فكرة الصديق العربي، وقمت بمد الخيط على استقامته فى الداخل، فوجدت أن الجذور المحلية لنظرية المسطرة أشد وطأة من الخارجية، فالحكومة تعرف جيدا حجم معاناة المواطنين ومشكلاتهم، ولديها خطط وأفكار وحلول للكثير منها، وتبدع فى وضع المشاريع المستقبلية، لكن فاتها التعرف على ما يريده بإلحاح قطاع كبير من المصريين فى اللحظة الراهنة، لأنها أيضا اعتمدت على مسطرتها فقط، ولم تأخذ فى الحسبان إمكان أن تكون هذه متعارضة مع المسطرة الشعبية، التى تقيس المسافات بصورة أكثر موضوعية. فالدولة عموما أصبحت تقيس مستوى النجاح بالساعة التى يستيقظ فيها رئيس الحكومة، أو أحد أعضائها مبكرا، وتعتقد أن عدد الساعات التى يوجد فيها كل مسئول فى الشارع، عنصر حاسم للحكم على كفاءته، وترى أن عدد المحافظات التى تنقل فيها الوزير أو رئيس حكومته، كفيلة بالتعرف على إنجازاته، وبدت مثل ناظر المدرسة الذى كل ما يهمه الانضباط فى الحضور والانصراف، دون اعتبار للنتيجة التى سوف يحصلها الطالب فى نهاية العام. لذلك تجاهلت تماما حجم الانجاز على الأرض، وركزت فى الشكل على حساب المضمون. وبعد مضى عدة أشهر تأكد عدد كبير من المواطنين أن الحكومة مصممة على قياس مشكلات الناس بمسطرتها العمياء. لا أحد ينكر عظم التحديات التى تواجهها هذه الحكومة، فى الداخل والخارج، الأمر الذى جعل الناس تتحمل أخطاءها المتعددة خلال الفترة الماضية. لكن الأيام المنصرمة قرعت أحد أجراس الإنذار، حيث عادت بعض القوى السياسية، تدق على أوجاع المواطنين، وتستثمرها فى التحريض على صب الغضب ضد مؤسسات الدولة، وقد تكون هذه المحاولات نجحت بصورة لفظية ومحدودة حتى الآن. وما لم تبادر الحكومة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة تشعر المصريين بمزيد من الاطمئنان، سوف يتجاوز الغضب حدوده اللفظية، فعليها أن تعمل على راحتهم وتخفيف المعاناة عن كاهلهم، وتتخلى عن مسطرتها، التى لا تتحرك، يمينا أو يسارا، إلا من أجل قياس ما تريده الحكومة، التى لم تتعب نفسها فى إشعار المواطنين أن هناك تغيرات شكلية، على الأقل، من خلال الاهتمام بالمظهر العام للشوارع المليئة بالمطبات والمكدسة بالأخطاء. المسطرة العمياء، كشفت عن نفسها فى تمسك الحكومة بعاداتها القديمة، المتوارثة من أنظمة سابقة، فهى تعمل بالطريقة نفسها تقريبا، حيث يبهرها صاحب الصوت العالي، ويخدعها المنافقون، ولا تتعب من أجل البحث عن الكفاءات فى صفوف الشباب، مع أن لديها أقوى أجهزة لجمع المعلومات، وتعيد إنتاج بعض الأشخاص فى قطاعات مختلفة، وتتصور أنهم أقدر على التعبير عن المرحلة الجديدة، بل وتقدم بعضهم على أنهم نماذج جيدة، وتجدهم حول أعضائها فى كثير من المناسبات الداخلية والجولات الخارجية، وتغض الطرف عن أن هؤلاء، فقدوا صلاحيتهم الشعبية، وأصبحوا خارج نطاق الميزان الذى تحكم به فئة واعية من المواطنين. هذا الميزان الحساس، له خصوصية كبيرة، ويقبض عليه من أعلى الوجدان العام للمصريين، الذين يتطلعون إلى التغيير الحقيقي، وما لم تأخذ الحكومة فى اعتبارها شروطه القاسية، سوف تكتشف أنها تمشى وسط حقل ألغام، فالناس على استعداد أن يتحملوا المزيد من التحديات، شرط أن تكون واضحة وأمينة معهم، وتحترم قدسية آدميتهم. وأول خطوة لتعزيز الثقة أن تتخلى الحكومة عن مسطرتها التى أزيل من عليها مدرج الأرقام، وتستبدلها بأخرى جديدة، تستطيع أن تقيس بها أدق المساحات. ومن الصعوبة أن تحقق إنجازا، إذا لم تأخذ فى الحسبان كيف يفكر الآخرون؟ ومن المهم أن تعرف ماذا تريد، لكن الأهم أن تكون واعيا لما يريده المواطنون ؟ لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل