انظر حولك.. تعلم أننا نعيش -فيما يبدو- عصر "الأكاذيب" التي تحتاج إلى من يكشفها، ويفككها، ويوضح حقيقتها للناس، فقد صارت حياتهم أكاذيب فوق أكاذيب، لا يكاد المرء، يتبين معها الحقيقة، أو يميز الصدق؛ إلا من رَحِمَ الله. إنها أجواء نعيشها معجونة بِ"سُم الكذب".. في الكلام والحديث، والبيع والشراء، والخلق والمعاملة.. فالناس يكذبون كل يوم، ويعتبرون ذلك أمرا عاديًا، وأحيانا: مهارة، أو ربما "شطارة".. متعللين بأنه كذب "بذكاء"، أو كذب "ضروري"، أو كذب "لا ضرر منه"، مع أن الكذب هو كذب، وأنه لا يجوز، حتى لو كان مع الحيوان، وحتى لو كان من "عادة الناس"، فهو أقبح، وحتى لو كانت الحضارة الحديثة تسمح ببعضه، لا سيما في أمور السياسة، كما يقول البعض. واصطلاحًا.. يعني "الكذِب": "الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدًا أو خطئًا أو سهوًا".. يقول الإمام النووي: "الكذب هو أن يخبر الإنسان بخلاف الواقع، فيقول: حصل كذا، أو قال فلان كذا، وما أشبه ذلك، وهو كاذب". وقيل: ليس الإخبار هنا مقصورًا على القول، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد، أو بهز الرأس، أو حتى بالسكوت. أما لغًة فالكذب هو: "نقيض الصِّدْقِ، كَذَبَ يَكْذِبُ كَذِبًا وكِذْبًا.. فهو كَاذِب وكَذَّاب وكَذُوب. والكذب سلوك مذموم حذر منه القرآن الكريم في 283 آية. وصاحبه مطرود من رحمة اللَّه.. ففي القرآن: "ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين".(آل عمران: 61). و"الكذاب" (أي: كثير الكذب) محروم من توفيق اللَّه، وهدايته.. فقد ورد في القرآن الكريم، إقرار مُّؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، الذي كان يَكْتُمُ إِيمَانَه، على قوله: "إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّاب".(غافر: 28). كما حذرت السنة النبوية من الكذب، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".(متفق عليه). نلاحظ هنا لهجة التحذير في قوله: "َإِيَّاكُمَْ والْكَذِبَ"، أي: ابتعدوا عنه، واجتنبوه، لأنه يَؤدي إلى الْفُجُورِ، ومنْ ثَمَّ إلى النَّار، والفجور هو: الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وهو أيضا: الميل إلى الفساد، والانبعاث في المعاصي، والخروج عن الطاعة، وهم اسم جامع للشر، فيما قاله "الراغب".(فتح الباري). والنهي المُشار إليه في القرآن والسنة عن الكذب، لا يخص كذبا بعينه، وإنما يحرم الكذب مطلقًا، ويعم الكذب في كل شيء. فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يُسمى في الجاهلية -قبل البعثة-: "الصادق الأمين"؛ إذ لم يكذب في حياته قَط. وعن عبد الله بن عامر أنه دعته أمه يوماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في البيت، فقالت: "ها، تعال أعطيك"، فقال لها رسول الله: "وما أردت أن تعطيه؟"، قالت : تمراً، فقال لها: "أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبتْ عليكِ كذبة". فالكذب على الصغير -حتى لو كان ممازحة- كالكذب على الكبير، لا يجوز. والكذب -أيضا- مفتاح النفاق، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ."(البخاري). بل قال العلماء: "الْكَذِبُ جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ". وبتعبير ابنُ تيميةَ هو: "أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ، وَنِظَامُهَا"، بل عد ابن تيمية "َالْكَاذِبَ": "أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ"، لأن "َالْكَاذِبُ لَمْ يَكْفِهِ أَنَّهُ سُلِبَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ حَتَّى قَلَبَهَا إلَى ضِدِّهَا، وَلِهَذَا قِيلَ: لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبِ". أخيرا، قالوا: "الكذبَ عنوانُ سفهِ العقلِ، وسقوطِ الهمةِ، وخُبثِ الطويةِ"، فضلا عن أنه يفسد الترابطُ بين أفرادِ المجتمعِ؛ فتشقى الجماعةُ به، ولا تنتظمُ شؤونُها على حال معه. فهلا فتحنا صفحة جديدة مع الله تعالى، ثم مع النفس، والناس.. مِلؤها ألا نلجأ للكذب أبدا، وأن نتحلى بالصدق.. ما حيينا؟ [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد