يظن البعض أن منتدى دافوس ما هو إلا مجرد جلسات نقاشية مملة لمجموعة من السياسيين وخبراء الاقتصاد تتناول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية الدولية. ويظن البعض الآخر أن المنتدى ما هو إلا فرصة نادرة للإعلاميين لمشاهدة مشاهير رجال الأعمال والسياسة عن قرب، والتقاط الصور التذكارية لهم وهو يستمتعون بأجواء منتجع دافوس الشتوية، وهذا غير صحيح تماما، باعتبار أن يمثل فى واقع الأمر مركزا لصناعة القرارات العالمية، أو المكان الذى تتم فيها عملية التفكير الجمعي، بين نخبة رجال السياسة والاقتصاد فى العالم مرة كل عام، لتهيئة الأجواء أمام اتخاذ قرارات حاسمة فى دولهم أو شركاتهم أو منظماتهم على مدار باقى أوقات العام. والحقيقة تشير إلى أن أغلب الآراء المنتقدة لمنتدى دافوس، والتى تحاول التسفيه من قدره، والتقليل من أهميته، تستند إلى نظرية «الأساطير الخمس» التى طرحها الكاتب والدبلوماسى الشهير موسى نعيم فى مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية. هذا المقال يشكل الأساس الأيديولوجى الذى بنيت عليه معظم الآراء المناهضة لفكرة دافوس، وأغلب انتقاداتهم تدور فى فلكه، حتى وإن كانت هذه الأساطير الخمس التى طرحها الكاتب يمكن الرد عليها وتفنيدها بكل سهولة، وبالأدلة وبالوقائع. لقد طرح «نعيم» فى مقاله أبرز خمس أطروحات أو انطباعات عن المنتدي، للوصول إلى النتيجة التى يريدها : - فالمنتدى من وجهة نظره ليس هو التجمع الرئيسى والأبرز عالميا ل»البلوتوقراط» - أو طبقة رجال الأعمال الثرية النافذة - بدليل تزايد عدد ممثلى الحكومات والمنظمات الرسمية بين المشاركين فيه فى السنوات الأخيرة. - والمنتدى - من وجهة نظره أيضا - ليس المصدر الرئيسى لإعداد وصياغة القرارات العالمية المهمة التى تغير التاريخ، باعتبار أنه منتدى لا تصدر عنه أى قرارات أو بيانات ختامية، كما أنه ليس المكان الذى يتحدد فيه مسار وتوجهات الاقتصاد العالمى فى عام مقبل. - والمنتدى من وجهة نظره أيضا ليس قادرا على التنبؤ بتوجهات الاقتصاد العالمى فى عام مقبل، بدليل أنه لم يتنبأ بالأزمة المالية العالمية فى التسعينيات ولا بانهيار الاتحاد السوفييتي. - كما أن المنتدى - وفقا لموسى نعيم - لا يعبر عن القطاع الخاص والسوق الحرة، باعتبار أن غالبية المشاركين فيه ليسوا ممن أطلق عليهم صمويل هانتينجتون «رجال دافوس»، مبررا ذلك بأن عددا كبيرا من رجال الأعمال المشاركين فى المنتدى يأتون من دول مثل الهند والصين، وهى دول تسيطر فيها الحكومات على الاقتصاد. - وأخيرا، يرفض نعيم فكرة أن المنتدى مكان راق له ما يميزه عن أى حدث عالمى آخر، مبررا ذلك بأن الحدث العالمى بات مليئا بالمشاركين ومزدحما بالمشاهير أكثر من اللازم. وللرد على هذه الانتقادات، يجب الحديث على جناحين متوازيين : الأول يتعلق بخلفية عن موسى نعيم نفسه، والثانى يرتبط بتفنيد موضوعى لأطروحاته الخمس. أما عن موسى نعيم، الكاتب والدبلوماسى الفنزويلى السابق، فيكفى القول إنه هو نفسه صاحب كتاب «نهاية عصر السلطة» الذى اختاره مارك زوكيربيرج مؤسس موقع فيسبوك لقراءته فى مستهل حملته «عام الكتاب» فى مطلع 2015، أى قبل أيام قليلة من انعقاد قمة دافوس لعام 2015. كما أن مقال نعيم عن دافوس الذى يتداوله مناهضو المنتدي، فمعروف من خلال عملية البحث على الإنترنت، أنه تم نشره على صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية ، وياللمفارقة، بتاريخ 25 يناير 2011! إذن فالكاتب لم يكن موضوعيا فى تناوله لتأثير دافوس، لأنه - كما هو واضح فى أطروحاته الخمس - يرفض وجود ممثلى السلطة أو الدول فى منتدى مثل دافوس، وهذا مرجعه بطبيعة الحال أن الكاتب من كبار المنظرين لفكرة زوال السلطة، وهيمنة الشعوب، وهو ما تناوله بالتفصيل فى كتابه الأخير الذى اهتم به مؤسس موقع فيسبوك، الساحة الخصبة الرئيسية عالميا للترويج لهذه الفكرة من خلال آليات مجموعات التواصل والحشد وصحافة المواطن. أما من الناحية الموضوعية، فإننا سنتناول انتقاداته الخمسة على النحو التالى : - فأولا : إذا كان دافوس جاذبا لقادة الدول والحكومات، فهى ميزة تقويه، ولا تضعفه، إذا تخلصنا من فكرة صراع السلطة والشعوب التى يتبناها نعيم، وهذا النوع من المشاركين لا يمنع الحضور القوى لأكبر رجال الأعمال «البلوتوقراط» فى العالم من نوعية بيل جيتس وجورج سوروس، وهى أسماء ليست بالهينة فى عالم الاقتصاد، ولا يمكنها إهدار وقتها بحضور منتدى يراه نعيم هزيلا! - وثانيا : نموذج المنتديات والمؤتمرات الذى يقوم على أساس المناقشات والتنظير والتواصل، دون الحاجة إلى إصدار بيانات واتخاذ قرارات، أصبح هو النموذج السائد الآن فى كل المؤتمرات، كما تجدر الإشارة إلى أنه حتى المؤتمرات التى تصدر توصيات أو قرارات، ومن بينها اجتماعات الأممالمتحدة نفسها، لا تملك فعليا القوة الإلزامية التى ننتظرها، ويكفى القول إن مطبوعات المنتدى نفسها تؤكد أن هدفها هو مجرد «تحسين حالة العالم». - وثالثا : ليس من أدوار منتدى دافوس والمشاركين فيه أن يؤدوا دور عالم الفلك الذى يجب عليه التنبؤ بالأحداث العالمية الكبري، ولم يطلب منه أحد ذلك، ولكن مناقشاته وعصارات أذهان المشاركين فيه يمكن أن تقود إلى ذلك بقليل من الجهد والتركيز لكل من يتابع الأمر بدقة. - ورابعا : الدول التى تسيطر على الاقتصاد مثل الهند والصين، ومعها روسيا، هى الدول الأكثر تأثيرا الآن على الصعيد الاقتصادى العالمي، وهو ما أثبتته الظروف المحيطة بالأزمة المالية الأمريكية والأوروبية الأخيرة، وظهور مجموعة العشرين ومجموعة بريكس. - أما خامسا وأخيرا : فلا يعيب منتدى دافوس ولا أى حدث عالمى غيره كثرة عدد المشاركين فيه، ولكن العكس هو الصحيح!