انتهى «الفيلم» بقتل القاتل، وبما أن القاتل والمقتول كليهما مجرد دوبلير، أدى دوره بإتقان طبقا للسيناريو الموضوع سلفا، ويقام العزاء فى مؤتمر ببيت «المنتج»، وعلي المتضرر اللجوء لمجالس حقوق الإنسان الغربى أما البطل الحقيقى الذى أشعل نار الإرهاب ثم أعلن الحرب عليه بتوقيته الخاص، فقد وعد القاتل والمقتول بالجنة التى كانت أرض أحلام البائسين .. أحدهما بوهم العقيدة والدين والثانى باسم الحرية ، واستباحا النظم والقيم والأحزاب والسياسيين حتى الرسل والرسالات! وكالعادة.. ينطق القاتل فى فيلم «شارلى إبدو» الشعار الذى يطلق العنان لمسار التكهنات قبل لحظات من قتله، إذ سمع كاتب السيناريو «القتلين» سعيد وشريف كواشى يقولان فى مخبئهما داخل مطبعة للورق: «نحن فداؤك يارسول الله»، فتركا العالم منقسما بين من ينتحب عليهما ومن ينتحب على ضحايا المتجراليهودى ومن ينتحب على مصرع «حقوق الإنسان» فى التعبير بين ضحايا الصحيفة المفلوتة، وترك بيننا وبينهم من على استعداد لتكملة المشوار بالروح وبالريشة والدم والقلم والرصاص، وبقى «النظارة» فى صالات العرض حول العالم يضربون أخماسا فى أسداس، على طريقة فيلم اغتيال الرئيس كيندى الذى قٌتِل «الشيوعى» أوزوالد بعد ساعات من القبض عليه على يد مختل عقليا!..، وهو نفس الغموض الذى لف مقتل أسامة بن لادن بعد،القبض عليه وبدلا من محاكمته بمعيار حق الإنسان فى محاكمة عادلة، وسؤاله عن لغز تحوله من مجاهد فى الحرب على الالحاد والشيوعية الى شيطان فى الحرب على الارهاب التى اشتعلت من أجله، وفوجئ العالم بالبيان التالى من المخرج أوباما بعبارة انجليزية مقتضبة : اسامة بن لادن "بح يامينز" .. ثم حدد مكانه بالضبط لكل من يريداللحاق به: فى قاع المحيط الهندى! وتداعيات نهاية فيلم «شارلى إبدو» لم تشعرنى بأى ارتياح من تشبيه البعض فى الغرب موقف الرئيس عبد الفتاح السيسى فى حربه على القوى الظلامية والإرهاب الذى يهدد مؤسسات الأوطان واستقراها، بموقف مجلة شارلى إبدو فى انتقاداته الدينية، وهو تشبيه يعبر عن جهل، فالرئيس السيسى أعلن بنفسه أن مهمته لإنقاذ الدولة وحرصه على سمعة الدين ، وقد حرص على تأكيد احترامه للمؤسسة الدينية الرسمية الممثلة فى الأزهر الشريف بتحميله مسؤلية تنقية الخطاب وسمعة الدين من الشوائب، وهو عكس سياسة التربص والاستهداف بهدف تشويه سمعة هذه المؤسسات الدينية التى مارست بها جريدة شارلى إبدو قبل العدوان عليها والتى استمرت على عنادها بعد هذا العدوان، ومن هنا لست مع الذين فرحوا من تردد اسم الرئيس السيسى فى الإعلام الغربى، وقد أوضح الرئيس بنفسه الفارق الكبير حين أوصى الحاضرين بالحفاظ على الدولة ، وهو مفهوم يختلف تماما عن مفهوم الغرب ل"لحرب على الإرهاب" حين صمتت هذه الأجهزة عن إدانة عمليات العنف ضد قوات الأمن فى سيناء والفرافرة والعدوان على أجهزة الأمن والخدمات، وهدد بتحويل سيناء الى إمارة اسلامية وأحرق فى ليلة واحدة أكثر من 50 كنيسة ، وتفرق بعض الدول الغربية وأجهزة الإعلام المرتبطة بها فيما يبدو بين إرهاب خبيث وآخر حميد فما حدث فى 11 سبتمبر عام 2001وما حدث فى بريطانيا والاعتداء على شارلى إبدو هو إرهاب خبيث أما إرهاب الدولة الأمريكية الذى دمر وحدة العراق وقتل الفلسطينيين وأطلق نار الفتنة فى سوريا وليبيا تحت مظلة ونيران حلف الناتو،والإرهاب التي تمارسه «بوكو حرام» فى نيجيريا وجيرانها والقاعدة فى اليمن، فهو إرهاب حميد يقتصر علاجه علي ضبط النفس وعدم الإقصاء وتطبيق معايير حقوق الإنسان ! والتفريق بين الإرهاب الخبيث والإرهاب الحميد ليس مجرد فيلم أمريكى ممنوع فى مصر الجديدة، بعد أن أجيز فى زمن الإخوان لأنه مرتبط بمصلحة الغرب التاريخية من وراء الحرب، ففى الأهرام 29 يوليو عام 1914 حدد نيقولا حداد أسباب الحرب العالمية الأولى أن حياة المجتمع الإنسانى يحددها تنازع الجماعات والأحزاب على السياسة والحكم، ومطامع طائفة الممولين الكبار فى كل أوروبا التي لا تجد وسيلة لتحقيق مصالحها إلا الحرب. ويضرب محرر الأهرام مثلا فيقول: معمل كروب الألمانى المشهور بصنع المدافع يلقم بعض الصحف الألمانية بعض المال لكى تتحرش بالصحف الفرنساوية.. حتى إذا احتدم الجدل دبت الوساوس فى صدور الساسة وتصل لحد الاستعداد للحرب فتبتاع الحكومة الألمانية المدافع من معمل كروب. فإذا وقعت الحرب تسوق الحكومة الفقراء والعامة إلى ساحة القتال ليقتلون فى سبيل مآرب الساسة أصحاب المصالح... وهكذا كانت تثار الحروب وتدمر الأوطان. فيما سمى الحرب العالمية الأولى والثانية وراح ضحيتها اكثر من خمسين مليون قتيل واختفت ممالك وخسرت البشرية مليارات أحرقت على حساب قدرتها على العمران والبناء، وبعد حرب باردة مملة وطويلة انتهت بسقوط الاتحاد السوفيتى اكتشفت اوروبا ان "الإسلام هو الحل" ووجدوا البذرة التى زرعوها فى جماعة الاخوان المسلمين وأخواتها وهو ما ذهب اليه الدكتور جلال أمين حين كتب الأسبوع الماضى أن العداء للدين الإسلامى أصبح هو المخرج الجاهز للقضاء على التناحر الأوروبى، وعقدت له دوائر ومراكز الأبحاث مئات الندوات وجندت له صحفا مثل شارلى إبدو وغيرها لتأجيج الحرب وتعميق الفجوة، وفى مصر وجدوا جماعات ودولا جاهزة بالغباء أو بالتمويل أو بالمصلحة لأداء هذا الدور تحت أى شعاردينى أو عنصرى أو قبلى. وبناء على رؤية الدكتور جلال أمين السابقة، فلا أرى أن هناك تناقضا الآن بين ضلوع الغرب فى إيجاد وتمويل جماعات دينية متطرفة على الجانبين لتنفيذ استراتيجيته ثم الانقضاض عليها بعد انتهاء دورها دون أن يترك أى أثر لجريمته، ولاغرابة إذن أن ينتهى فيلم "المجاهد"أسامة بن لادن فى بطن الحوت، كما انتهى سعيد وشريف كواشى فى فيلم "شارلى إبدو" بنظرية «قتل القاتل» ومشى فى جنازته المجرم الى جانب الضحية نيتانياهو وأبو مازن! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف