كيف استطعنا أن نجعل النشء المتعلم فى المدرسة، يكره حصة اللغة العربية إلى هذا الحد؟ وكيف نجحنا فى اختصار معنى درس اللغة العربية إلى أنه حصة فى القواعد، وأن هذه القواعد هى مجرد الإعراب؟ أى أن اللغة العربية «بكل ما لها من وزن وإجلال» تصبح بفضل هذا التعليم البائس مجرد دروس فى القواعد! ولكى نجعل درس اللغة فى المدرسة، أمرًا جميلاً وممارسة حية، ينتظرهما كل من يتعلم بفرح وسعادة، فلابد من تغيير شامل فى كل ما تمثله العملية التعليمية الآن، بدءًا بإعداد المعلم المحب للغته والمؤمن برسالته والقادر على القيام بمتطلباتها، والمنهج التعليمى الذى لا يقوم على مجرد التلقين وترديد ما يحفظه التلاميذ من معلومات يرددونها كالببغاوات، بل يعيشون اللغة بوصفها حياة وممارسة وأنشطة مدرسية واكتشافات يومية لكل ما هو جميل ونافع ومكونا للشخصية منذ السنوات الأولى للدراسة. لذا فإن الأمر يحتاج إلى أمور شديدة الأهمية: أولها: أن يكون لوزارة التعليم دورها التربوي، عندما كانت تسمى وزارة التربية والتعليم. واختفاء هذا الدور التربوى هو الذى ألغى فرصة بناء الشخصية وتكوينها بدلا من الاكتفاء بالمعلومات من خلال الحفظ والتلقين. وبناء الشخصية فى المدرسة يقوم على مشاركة حية وفاعلة فيما كان يسمَّى قديمًا بالهوايات التى من خلالها ينفسح المجال فى جمعيات الصحافة المدرسية والتمثيل والموسيقى والعلوم والرياضة والتاريخ والجغرافيا وغيرها، ومنها يخرج إلى الوطن نجوم المستقبل: آباؤه وفنانوه وعلماؤه ورياضيوه وإعلاميوه، وتتحقق خطوات الانتماء الأولى للمدرسة «الصورة المصغرة للوطن» والاعتزاز بها واستيعاب قيمها ومُثلها العليا. ثانيها: أن يكون درس اللغة العربية قائمًا على نص متكامل، يختار من بين إبداعات عصرية، تشمل المقال والقصة والرواية والمسرحية والقصيدة والخبر وغيرها مما يُكتب ويُنشر ويُسمع ويُتداول. هذا النص، بلغته العصرية السهلة الميسرة، وبموضوعه المشوِّق الجذاب، هو الذى يصبح مادة للتناول على مستوى القراءات الصحيحة أولاً، ثم الفهم المستوعب ثم التحليل الذكى لعناصره وأفكاره الأساسية بعد فهم فكرته العامة، ثم الحوار حول الشكل الإعرابى لمجموعة من الكلمات جاءت فى سياقها الطبيعي، ترفع وتنصب وتُجرّ فى حالة الأسماء وتُرفع وتُنصب وتُجزم فى حالة الأفعال. ويكون سياق الكلام الطبيعى غير المصطنع أو المفتعل والمأخوذ من نصوص حقيقية منسوبة لأصحابها، وليس من صنع متعهدى تأليف الكتب المدرسية. عندئذٍ يذوب درس القواعد فى سياق النص المكتمل، وتتضح علاقته بالمعنى والدلالة، وبتركيب الجملة والعبارة، ولا يبدو جافًّا منفصلاً عن الاستخدام الحىّ أو بعيدًا عن فهم معناه ودلالته. ثالثها: أن تفكر وزارة التربية والتعليم بعد أن تستعيد اسمها الحقيقى ووظيفتها الطبيعية فى استخدام ما يسمى بوسائل الاتصال أو الإعلام الإلكتروني، بدءًا بالموبايل والآى باد والفيس بوك والتويتر وغيرها من المخترعات والبرامج التى ينشغل بها النشء الآن انشغالا هائلا. لكنها تتحوَّل لديه إلى أدوات للهو والتسلية العابرة وشقاوة الصغار، وهى فى حقيقتها منتج حضارى يمكن بل يجب استخدامه فى إنجاح التعليم وتحقيق أقصى درجات التشويق فيه. ولنتخيل معلِّمًا يطلب من تلاميذه وتلميذاته أن يكتب كل منهم تغريدة واحدة يستمع إليها الفصل فى اليوم التالي، ويعلقون على ما يستمعون إليه ويحاولون قراءته قراءة صحيحة، ويمرَّنون يومًا بعد يوم على تصويب أخطاء الكتابة أو النطق أو تركيب العبارة. بحيث يتحسَّن مستواهم بالممارسة اليومية التى لم يبتعدوا فيها عما يمارسونه بها فى حياتهم اليومية من لعب وتسلية ونشاط. فالذى تفعله المدرسة امتداد لتحقيق متعة الكتابة والتعليق وتبادل الرسائل، والحكايات الضاحكة، والتعليقات والاعترافات، وكلها صور للممارسة الحية باللغة، التى لابد أن نفكر لها فى وسائل جديدة مبتكرة، بعيدة عن مجرد السبورة أو الكراسة المدرسية، وأقرب ما تكون إلى العالم الحقيقى لهذا النشء. والذى أكتبه الآن ليس خيالاً واهمًا أو حلمًا مستحيل التحقيق، فقد طبق بالفعل فى عدد من الفصول الدراسية فى عدد من المدارس التى تريد التجديد ومسايرة العصر واجتذاب النشء المتعلم إلى درس اللغة العربية فى حصة تتحول إلى دقائق سريعة من الحيوية والمتعة والنشاط التلقائي. رابعها: أنه آن الأوان للتخلص من نظرية الهرم المقلوب التى يقوم عليها تعليم الأدب العربى والبلاغة العربية وكل ما يتصل بالثقافة العربية. فالفكر التربوى يقضى بأن يكون التعليم بدءًا من المعلوم وانطلاقًا إلى المجهول. والمعلوم بالنسبة لنا ولأبنائنا هو ما نعيشه ونمارسه، نقرؤه ونكتبه، ونُثرى به حياتنا وعقولنا ووجداناتنا فى كل يوم. من هنا، يصبح البدء فى تعليم درس الأدب بالعصر الجاهلى مضادًّا لهذه النظرية التربوية، لأن هذا الأدب يدخل فى دائرة المجهول بالنسبة للنشء المتعلم لغةً وأسلوبًا وموضوعاتٍ وفكرًا وبلاغة وفهمًا وتذوُّقًا. ولذلك يواجه النشء المتعلم، الغضّ العود، الذى لم يتعرف بعد على لغته ولا شعرها وطرائقه فى التعبير، صدمة معرفية تؤدى به إلى كراهية اللغة وكراهية شعرها الذى يبدأ بمعلقة امرئ القيس، هذه الكراهية هى التى فتحت الباب واسعًا للسخرية من مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معا، إلى آخره، وكان ينبغى البدء بالشعر الحديث والمعاصر، ومختارات من القصص والروايات المعاصرة، وألوان من المقالات والتحقيقات والتعليقات، باعتبار ذلك كله مدخلاً إلى التعرف على طبيعة اللغة أولاً، وعلى شعرها وسائر فنونها ثانيًا. خامسها: لابد لنجاح تعليم اللغة العربية فى المدرسة من الأخذ بنظرية الحمام اللغوي، التى تقوم على غمر التلاميذ طيلة الوقت باللغة بدءًا من دخولهم إلى المدرسة حتى مغادرتها. فكل ما يدور فى المدرسة من تعليم أو نشاط مدرسى أو هوايات أو برامج للتوعية يجب أن يكون بلغة عربية صحيحة، سهلة وميسورة. بحيث تستمع الآذان طيلة الوقت إلى انسكاب هذه اللغة، وإلف جرسها وأصواتها، والنطق بها ومحاكاتها وتقليدها واختزان مفرداتها واكتساب الخبرة اللغوية الممكنة من خلال المواقف التعليمية والحرة فى المدرسة. هذه النظرية القائمة على فكرة الحمام اللغوي، لابد من البدء بها على سبيل التجربة فى بعض المدارس، وتقييم نتائجها، وعقد المقارنات بينها وبين غيرها من المدارس التى لم تطبقها بعد. أخيرًا: ليس ما ينقص التعليم وتعليم اللغة العربية بالذات فى مصر، هو وفرة المدارس، أو بناء مدارس بلا أسوار لأن الأسوار تتكلف الملايين ولكن أن يتحول ما لدينا من مدارس حتى ولو كان قليلاً إلى مدارس حقيقية، فمئة مدرسة تتحقق فيها الشروط الحقيقية للتربية والتعليم، وبناء الشخصية وتحقيق الانتماء خير من ألف مدرسة، هى مجرد مدارس بالاسم، ليس لها أدنى علاقة بمهمتها الحقيقية، فى الوقت الذى يهرب منها النشء المتعلم بعدم الحضور، ويقفز من فوق أسوارها لشعوره بعدم الجدوى، - والبركة فى الدروس الخصوصية وربما لإحساسهم الفطرى المبكر بأن الاستثمار فى التعليم لم يحقق عائده الحقيقيّ بعد. وما تزال قضية تعليم اللغة العربية وتعلمها مفتوحة على أسئلة لا تنتهي، المهم أن تكون هناك رغبة حقيقية لدى الدولة فى التغيير. لمزيد من مقالات فاروق شوشة