كان الخروج من القرية أو الحارة والارتحال للقاهرة أو البندر لتلقي العلم أو العمل ثم العودة للقرية موسميا بمثابة حجر تتلقفه المياه الراكدة.. يتحول السكون لصخب وتصبغ الأحداث الدرامية أياما و ليالي باهتة، وكأن الغريب يعود محملا بنفحة حياة و برياح التغيير. تلك هي الصورة التي جسدتها بصدق شديد مُجمل أعمال كتابنا منذ ظهور رواية زينب لحسين هيكل مرورا بأيام وشجرة بؤس وأديب طه حسين وبوسطجي حقي، وفصول من كتابات إبراهيم المازني وصولا لكتابنا المعاصرين. . والحقيقة أن ما يعنينا من الرصد السابق هو ما وشت به صفحات هؤلاء الكتاب، فالخروج للدراسة في الأزهر أو المدارس العليا قبل إنشاء جامعة فؤاد كان يواكبه تغيير في أنماط الحياة والبيئة التي ينتمي لها الطالب، فيعود إليها محملا بالعلم وبفكر جديد سمح بقبول فكرة تعليم الإناث والتحاقهن بالجامعة والعمل وغير ذلك الكثير من العادات والتقاليد التي فقدت صلاحيتها.. هكذا كان الحال وما سيكون عليه دائما عندما يتعلق الأمر بالتعليم، فلقد أثبتت الدراسات وتجارب الدول أن بداية التقدم الحقيقية هي التعليم الذي بات يتصدر أولويات برامج وسياسات الدول المتقدمة والساعية للبقاء علي الخريطة.. كذلك فقد ربطت الدراسات بين تدني مستوى التعليم، وانحطاط حال المؤسسات التربوية وبين تسطيح الثقافة وترسيخ قيم مغايرة عن تلك التي استقر عليها أي مجتمع، الأمر الذي يدفعنا للبحث في العلاقة بين ما نشهده علي أرض الواقع من سلوكيات معيبة و اغتراب ثقافي وإهدار لقيمة العلم و بين مناهج دراسية نقدمها لأبنائنا، وطرق تقييم أظن أنها لم تعد تلائم العصر، وربما كانت سببا في عزلة البعض عن ثقافة المجتمع و ضعف الانتماء... قالت لي إعلامية مشهود لها بخلفية ثقافية متميزة إنها تعاني الأمرين في مراجعة النصوص العربية مع ابنتها التي تفضل اللغات الأجنبية وآدابها علي اللغة الأم وأنها عجزت عن إقناعها بتذوق جماليات لغة عربية لا تعكسها النصوص المقررة !!.. نفس الشكوى تكررت من طلبة ومعلمين وأولياء أمور لسنوات طويلة وتم طرحها علي واضعي المناهج، لكن ظل الأمر علي ما هو عليه رغم أهمية الدور الذي يلعبه الأدب في التنشئة وإعداد النشء لمواجهة المستقبل باعتباره وسيلة مثالية للتعليم واكتساب المعطيات الثقافية في أي مجتمع. ففي دراسة أجرتها د. عواطف حسن علي، الأستاذة بكلية التربية جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، أثبتت أن القصص والحكايات والشعر وسيلة للتسلية والمتعة والتربية و بالتالي يمكن من خلالها تشكيل عقول النشء وغرس القيم الاجتماعية والأخلاقية والمبادئ التي يرتكز عليها المجتمع. مع ذلك فإن مناهج اللغة العربية الحالية، باعتراف المعلمين أنفسهم، لا تتيح للنشء فرصة اكتشاف جماليات اللغة العربية وآدابها ولا اكتساب الفصحى، لأنها تتجاهل المعطيات اللغوية الإدراكية والمعرفية للطالب المصري ولا تمده بمادة لغوية متكاملة تعينه علي اكتساب اللغة والإلمام بفنون الأدب العربي بيسر بما يؤهله لاكتساب المعارف والتواصل مع ثقافة مجتمعه والتفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى دون الذوبان في هوية الآخر. علي صعيد مواز تباغتنا مشكلة استمرارية طرق التلقين والحفظ التي لم تعد تناسب طبيعة عصر باتت المعلومات فيه متاحة ولم يعد مقياس الامتياز فيه القدرة علي استعادة معلومة يمكن الحصول عليها بلمسة خفيفة علي شاشة محمول «أي باد»، بل القدرة علي توظيف هذه المعلومات في بناء معرفي.. عصر أصبحت فيه المعرفة السلعة الاقتصادية الأولي، فربط مفهوم التخلف بضعف الإنفاق العلمي، وبفشل التعليم العالي في توليد المعارف النظرية والتطبيقية، وقلة عدد الباحثين في الدول النامية مقارنة بالدول المتقدمة.. ولأن التاريخ يؤكد أن المنظومة الثقافية المصرية بكل أضلاعها كانت السلاح الأمضى في كل معارك التنوير ومكافحة الجهل والخرافة والعادات الاجتماعية الضارة، أتصور أنه قد حان الوقت لتحديد الهدف من العملية التعليمية ووضع مناهج وأساليب تتسق مع هذا الهدف.. أن نراجع مناهج العلوم الطبيعية والإنسانية واللغة العربية وأدبها في كل المراحل لتقديمها بشكل منهجي وتعليمي سليم، آخذين في الاعتبار عقلية طالب القرن الحادى والعشرين وطبيعة العصر وأن اللغة لسان أمة وحياة وليست مجرد قواعد صنعة أو قوالب صماء تجهد المعلم تلقينا والتلميذ حفظا. . مدركين أننا إذا ما استسلمنا لنسق الفكر العشوائي فعلي الأمة السلام.. لمزيد من مقالات سناء صليحة