أثارت التصريحات الصادمة التي أطلقها أحد قادة السلفيين في ندوة بجامعة القاهرة, و التي ورد فيها أن الغرض من تأسيسها هدم الشريعة الإسلامية, سخطا عارما في الأوساط الجامعية و بين خريجي و طلاب الجامعات. فالتصريحات التي حاولت أن تزعزع الثقة في إحدي المؤسسات المصرية العريقة التي لم تكن بحال من الأحوال بمعزل عن الحراك العام للمجتمع المصري منذ أوائل القرن العشرين, والتي اهتمت علي مدي قرن من الزمان بتأهيل الطلاب في كل فروع العلوم التطبيقية والإنسانية واللغات والأدب و الفلسفة الإسلامية, وعاش في رحابها أساتذة أجلاء حملوا مشاعل العلم و التنوير وكانت رسالتهم الدائمة دائما تحرير الأرض والفكر والإرادة, والتي كانت مراحل إنشائها تجسيدا لتضافر كل القوي المصرية هذه التصريحات الغريبة لا تكمن خطورتها فقط في كونها تكشف استمرار محاولات هدم و تهميش مؤسسات الدولة الحديثة, بل الأكثر خطورة أنها نذير ببداية مرحلة جديدة للتفتيش في الضمائر وإلقاء التهم جزافا علي رموز فكرية وأجيال من الأساتذة والطلاب في كل الجامعات المصرية وعلي كل من ينتهج فكرا مختلفا. تأتي هذه التصريحات لتعكس الحالة الفكرية التي بدأت تسود المجتمع المصري الآن نتيجة لسنوات طويلة تم فيها تجريف الثقافة المصرية لمصلحة ثقافات أخري, مع استمرار حشو عقول أجيال من المصريين بمواد ومناهج تعليمية تتأرجح بين القديم والجديد, وتفتقر لوضوح الهدف والتخطيط المستقبلي, مما أسفر عن ظهور أجيال عاجزة عن التواصل مع ثقافة مجتمعها وتراثه واحترامه والدفاع عنه أو نقده أو التعامل مع الاختلاف بمنطق عقلاني لاينفي الآخر أو يلقي عليه التهم جزافا. في ذات السياق لا أستطيع أن أتغافل عن أسئلة ابنة صديقتي, الطالبة بالصف الأول الثانوي, أن يضيع عنترة سبع سنوات من عمره ليجلب النوق البيض للزواج بعبلة(!!) ورغم أنني حاولت أن أجد أمام نفسي مبررا لاستمرار دراسة هذه الرواية لأكثر من40 عاما باعتبار أنها تستكمل جزءا من المنهج الذي يتناول الأدب في العصر الجاهلي وصدر الإسلام وأن المؤلف محمد فريد أبو حديد أحد كتابنا المرموقين, فإن رؤية ابنة صديقتي أعادت لذاكرتي كل التعليقات التي كنت أسمعها من نجلي وزملائه وأبناء الزملاء والزميلات في الأعوام اللاحقة ممن كانوا يقيمون أحداث الرواية من منظور جيل مختلف تماما عن أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا, سواء من حيث الرؤي أو الأفكار أو الذائقة الأدبية( كما يتضح من أرقام مبيعات نوعيات الكتب والدوريات التي يقبلون عليها) أو الأشكال الأدبية علي مواقع الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي, التي وإن كانت لم تستقر أو تتبلور بعد, فإنها تعبر عن رؤيته للعالم وما يستحسنه أو يرفضه. فهذا الجيل الذي تفتحت مداركه في عصر لم تعد الكلمة المطبوعة فيه المصدر الوحيد للمعرفة, والذي تحايل علي صعوبة وجمود مناهج اللغة العربية وانفصالها عن حياته وممارساته اليومية, وعدم قدرته علي التعبير عن نفسه بعبارات واضحة وجمل مستقيمة, بنحت كلمات وعبارات جديدة غريبة, أو إضافة الألف أو الباء للكلمات الإنجليزية( لتصبح كلمة الحفظ أسيف والإعادة أدبلر والتخصص أدكلر..إلخ), والذي رغم كل ما سبق يتفوق علي الأجيال التي سبقته في درجة الوعي والإدراك وعدم قبول المسلمات والانفتاح علي العالم الخارجي هذا الجيل, يحتاج بالضرورة لأسلوب مختلف تماما ليتعرف علي تاريخ الأدب العربي وتطوره وأهم رموزه و تاريخ وطنه بالكامل, كي لا تتحول المنهج الدراسية لمادة صماء جامدة لا نفع لها, تتبخر في الهواء بمجرد الانتهاء من تسويد أوراق الإجابة في الامتحانات. لقد أثبتت الأبحاث أهمية الدور الذي يلعبه الأدب في التنشئة وإعداد النشء لمواجهة المستقبل القريب والبعيد, إضافة لكونه وسيلة مثالية للتعليم والتنشئة الثقافية والتفاعل مع المجتمع, مع ذلك فان واقع مناهج اللغة العربية الحالي لا يتيح للنشء فرصة اكتشاف جماليات اللغة العربية وآدابها ولا اكتساب الفصحي, فالمناهج الحالية, باعتراف المعلمين وأولياء الأمور والطلبة أنفسهم, تقدم مادة كثير من ملامحها مرتبط بثقافة تختلف جذريا عن ثقافة المصري المعاصر وبالتالي لايتفاعل الطالب معها بل وتخلق بينه وبينها هوة نفسية تتجلي آثارها في الظواهر التي سبق أن رصدناها في السطور السابقة وانتحار العربية علي الشفاة وتفضيل الفرانكوآراب علي لغته الأم وآدابها. فالمناهج الحالية تتجاهل معطيات اللغوية الإدراكية والمعرفية للطالب المصري, ولا تمده بمادة لغوية متكاملة, تعينه علي اكتساب اللغة والإلمام بفنون الأدب العربي بيسر, بحيث تصبح مناهج اللغة أداة لاكتساب المعارف, والتواصل مع ثقافة المجتمع والتراث والتفاعل الإيجابي بين الثقافات دون الذوبان في هوية الآخر. واليوم ومع بداية ظهور واقع جديد, لا يزال في طور التحول والتشكيل نأمل من القائمين علي العملية التعليمية والجامعات ومراكز إعداد وتطوير المناهج تقديم المواد التي تدرس لأبنائنا في كل المراحل لتقديمها بشكل منهجي وتعليمي سليم, آخذين في الاعتبار عقلية طالب القرن الحادي والعشرين ومدركين لحقيقة أن المعرفة تشكل مستقبل أمة وأن الدين واللغة لسان أمة وحياة. [email protected]