فى ركن منزو لا تزال ماكينة خياطة الجدة من ماركة «سنجر» (موديل- 27) - المعروف باسم المصرية أو كليوبترا أو «ممفيس» – تقبع بنقوشها الذهبية الفرعونية فوق منضدة خشبية ممهورة باسم الشركة. «الصديقة المخلصة للمرأة حول العالم» كان شعار تسويق الموديل 27 فى أدبيات سنجر، وأنتجتها الشركة عام 1898 ضمن مجموعة من الموتيفات المنقوشة برسوم ذهبية تناسب البلد التى سوف تصدّر له، ومنها الموتيفات الفارسية والعثمانية والفيكتوريا وأخيرا المصرية وهى الأعلى انتشارا فى الشرق الأوسط. لم تحظ ماكينات الخياطة فى مصر بتأريخ مناسب يطلعنا على توقيت دخول آلات الخياطة إلى الأسواق، أو الأنواع التى انتشرت بخلاف الماركة الأشهر «سنجر»، لكن الأكيد أنها غيّرت شكل أزياء ملايين البشر، وطوّرت فن الحياكة وتصاميمها، إذ فتحت مساحات لا نهائية من إبتكار أشكال جديدة للملابس، وكانت الطريق الأكيد للوصول إلى ذروة الخيال والإبداع فى الملبس، وفى مصر استطاعت الآلة السحرية ذات الصندوق الخشبى والنقوش الذهبية أن تؤثر على عدة أنماط اجتماعية وتبدل مصائر أسر كاملة. بدأ اقتناء ماكينات الخياطة بين أبناء الأسر الراقية أولا، وتقول مشيرة عبد القادر (62 عاما) ربة منزل توارثت إحدى ماكينات كليوبترا عن أمها: «كان فن الحياكة أحد المميزات المهمة التى تتحلى بها بنات الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة والطبقة الراقية حتى أن بعض الأسر كانت تشترى ماكينة الخياطة ضمن جهاز العروس»، مبررة ذلك بارتفاع أسعارها، كما أنها كانت تُشترى من الخارج، بعضها كان يأتى مصحوبا بطاولة خشبية منقوشة ملحقة بها «الدوّاسة» التى تدير سير الماكينة. تروى مشيرة أنها تعلمت الحياكة فى مدرستها الإعدادية، مؤكدة أنه كانت هناك مدارس خاصة لتعليم فنون الحياكة اليدوية والتطريز واستخدام ماكينات الخياطة ترتادها البنات من الطبقات الراقية. على الرغم من التاريخ الطويل لتطوّر عملية اختراع ماكينات الخياطة، كانت «سنجر» الأمريكية هى أشهر الماكينات المنتشرة حول العالم نظرا لبساطة تصميمها وقابليته للتنفيذ، إذ سُجلت أول براءة اختراع معروفة عام 1755 بإنجلترا على يد المهندس الألمانى تشارلز فريدريك فيزنتال، وقد صمم آلة ذات إبرة مزدوجة وعين واحدة تستطيع حياكة غرزة السلسلة (أبسط أشكال الغرز)، لكن ماكينة فيزنتال لم تنتشر نظرا لتعقيد تصميمها. وفى 1790 اخترع الانجليزى توماس سانت أول تصميم لماكينة خياطة بسيطة لكنه مع ذلك فشل فى تسويقه، وكانت آلته قد صممت لتحيك الجلود والكانافا، وفى عام 1830 حصل الترزى الفرنسى بارثليمي ثيمونييه على براءة إختراع أول ماكينة عملية ليقوم بتصنيع 80 قطعة منها لحياكة زى الجيش الفرنسى عام 1841، إلا أن ثورة قامت ضد ماكينة ثيمونييه حيث أحرق الترزيّة مصنع الماكينات ظناً منهم أنه يهدد رزقهم . مع ذلك لم تشهد ماكينات الخياطة الانتشار الواسع إلا مع حصول الأمريكى إسحق سنجر على براءة اختراع أول ماكينة ذات يد متحركة «دوارة» عام 1851، كانت اليد تتحرك قبل ذلك مع الإبرة فى حركة رأسية, كذلك طور سنجر نمط استخدام الماكينة بتثبيت الماكينة فوق منضدة. فى مصر نشأ أول توكيل للماكينات سنجر بحى محرم بك بالأسكندرية للبيع والصيانة، تقول مشيرة : « فى البداية كانت الماكينات سنجر معظمها يدوية تقوم على لف اليد، لذلك كانت عملية الخياطة مرهقة، إلا أن دخول اختراع الدواسة سهل عملية الحياكة كثيرا». تروى مشيرة أن الملابس الجاهزة المتشابهة الشكل التى تنتجها المصانع لم تكن انتشرت بعد، كانت النساء يأتين بأحدث خطوط الموضة من المجلات الأوروبية وينفذنها على أنواع أقمشة مختلفة كلً حسب مقدرته المالية وذوقه، وكان دور الخيّاطات تنفيذ الموديلات الأكثر تعقيدا وصعوبة. أما ماكينة الخياطة بالمنزل فكانت تحيك ملابس النوم والتصاميم البسيطة مثل الجلباب والبيجامة مع حلول مواسم الصيف والشتاء والأعياد، أو المفارش والستائر قبل تطريزها وتزيين المنازل. فى الخمسينات أنتجت أول ماكينة خياطة مصرية بالمصانع الحربية مع بداية الثورة الصناعية المصرية، ولها وموديلان هما «نفرتيتى» و«رمسيس»، لكن لم يكتب لهما الاستمرار والانتشار كنظيراتهما المستوردة، إذ كانت مكوناتهما الداخلية مصنوعة من مادة التوتيا وهى مادة سهلة القضم، لا تتمتع بقدرة النحاس أو الزهر على المقاومة.. بعد أن انخفضت أسعارها قليلا وتوافرت بدائل محلية وعالمية أخرى دون سنجر استطاعت ماكينات الخياطة أن تتحول سريعا إلى مشروع صغير يعول أسرا كاملة، خصوصا وأن خطوط الإنتاج الجاهزة لم تكن قد أجهزت على الأسواق المصرية بعد، وكانت أغلب الأسر المصرية تعتمد على تفصيل الملابس. توارى موديل 27 مع توقف إنتاجه من الشركة عام 1960 ضمن سلسلة من الموديلات القديمة، وانتشار موديلات المكن الحديثة ذات الموتور الكهربائى، إذ صار أغلب محترفى صناعة الملابس يعتمدون على الأشكال الأحدث التى سهّلت إنتاج كميات كبيرة فى زمن قصير، وتنفيذ أكثر الغرز تعقيدا بشكل أوتوماتيكيا. مع ذلك مازالت بعض ماكينات موديل 27 تعمل حتى يومنا هذا خصوصا وأنها صممت بطريقة جعلت من السهل إصلاحها واستبدال قطع غيارها دون أن تتأثر وظائفها، إذ سبق إنتاجها سياسات «التقادم المخطط» التى صارت تنتهجها الشركات العالمية، حتى أن كثيرا من أصحاب ماكينات الموديل 27 حوّلن ماكيناتهن للعمل بالموتور الكهربائى لتعمل بنفس مهارة الموديلات الحديثة، هذا ما فعلته مشيرة بماكينتها لتستمر فى استخدامها، فيما ظلت بعض قطع موديل 27 موجودة بحالتها الأصلية متداولة كنوع من الأنتيكات التى تباع بصالات المزادات، إذ تجاوز عمر بعضها ال115 عاما.