سواء أسميناها «رحلة الحياة» أو وصفناها ب«لعبة الحياة» فان الشيخ عبد ربه التائه عندما سئل:»هل تحزن الحياة على أحد؟» أجاب:»نعم..اذا كان من عشاقها المخلصين».هذا ما ورد في«أصداء السيرة الذاتية» لنجيب محفوظ. وكان محفوظ قد تعجب من قبل وتساءل «كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذا، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب، وللروح هذه الطاقة اللا نهائية على الايمان» ومحفوظ نبهنا أيضا «ان السعادة قصيرة الأجل وانها لا تعمر في النفس طويلا كالحزن أو الحسرة». أما الروائي الأمريكي فيليب روث فيرى أنه من الأفضل لك أن تنسى ما هو الصواب والخطأ بالنسبة للبشر و«فقط أن تكمل الرحلة معهم ..واذا استطعت فعل ذلك فأنت سعيد الحظ». وهو الذي كتب أيضا:» كل شخص آخر قد يعمل من أجل أن يقوم بتغيير البشر واقناعهم واغرائهم والتحكم فيهم. الا أن أفضل القراء يذهبون الى الأعمال الإبداعية الروايات لكى يتحرروا من كل هذا الضجيج» ولم يكن بالأمر الغريب أن يقف المرء مصدوما وحائرا وسط هذا الضجيج المثار حولنا وأيضا المسيطر بيننا وبالتأكيد المهيمن بداخلنا بسبب «شارلي ابدو» والأخوين كواشي وما حدث من ارهاب وارت وأمام هذا الضجيج الصارخ والخانق حول «الارهاب» و«الاسلام والمسلمين» ومزايدات «أنا شارلي» و«أنا لست شارلي» أو «أنا أحمد» لا يجد المرء مفرا من أن يسأل ويتساءل عن مصير»حرية التعبير» وواقع «إجرام الإرهاب والترهيب» وأيضا عن ضرورة»احترام الآخر ووجوده ومعتقداته .. وحقه في التباين والاختلاف». وهذا الضجيج مع الأسف مستمر معنا .. لم ينته بعد ولن ينته في القريب العاجل طالما تتعالى أكثر وأكثر أصوات الإستنكار والإستنفار والإصطفاف، وتحتد مواقف التبرير والتفسير وتتكرر التعليقات اياها ..«انقلب السحر على الساحر» و«ارتد السهم على راميه» و«جنت على نفسها براقش». وفي هذا المشهد الانساني الكئيب والمرتبك تختلط المفاهيم والمقاييس والمعايير الانسانية وتنتهك آداب الحوار والجدل والنقاش. وأنا هنا بالمناسبة لا أحاول أن أصغى للضجيج (الذي نعاني منه جميعا) وصداه أو أفهم منطقه و«أغراضه السياسية والأيدولوجية»واكتفي فقط برصده والتحذير من الاندفاع اليه والتباهي بنهجه. خاصة أننا كبشر في نهاية المطاف عندما نفقد رءوسنا وعقولنا ومنطقنا ونستسلم لمنطق الإرهاب أو الترهيب .. أو «الضجيج»من أى نوع نصبح مجرد أموات على قيد الحياة في انتظار الإعلان عن «انتقالنا الى العالم الآخر» وذلك حسب أحكام أناس «غالبا لا يحبون الحياة والأخطر أنهم يكرهون أيضا من يحبها». وهذا الأمر (لمن يعنيه الحياة) غير مقبول انسانيا ليس فقط في القرن الحادي والعشرين بل كان كذلك أيضا من قرون سحيقة مضت ومرت .. وبقي حيا عشق الانسان للحياة وبهجتها. وبما أننى اعتدت الاحتفاء بأساتذتي وأصدقائي في «عشق الحياة» (وما أكثرهم) بالرجوع مرارا الى ابداعهم و كتبهم والى ذكرياتي معهم ..وتحديدا في يوم ميلادهم. فاحتفائي في ذلك اليوم (7 يناير) بجانب الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في مصر كان زيارتى المعتادة لكتب وكلمات يحيي حقي، أحد أكبرعشاق الحياة ومن كتب كثيرا عن فنون هذا العشق وتفاصيله في حياتنا اليومية، ومن خلال الأماكن التي تواجد بها و»خلق الله» الذين التقى بهم . فحقي يكتب في سيرته الذاتية «ولدت في 7 يناير 1905 بحارة الميضة وراء مقام السيدة زينب في بيت ضئيل من أملاك وزارة الأوقاف. ورغم أننا غادرنا حي السيدة وأنا لا أزال طفلا صغيرا، فهيهات أن أنسى تأثيره على حياتي وتكويني النفسي والفني.فما زلت الى اليوم أعيش مع الست «ما شاء الله» بائعة الطعمية، والأسطى حسن حلاق الحى، وبائع الدقة .. ومع جموع الشحاذين والدراويش الملتفين حول مقام «الست»..» ويذكر أيضا في سيرته «.. في أول يناير سنة 1927 تسلمت عملي الجديد معاونا للادارة مركز منفلوط حيث قضيت أهم سنتين في حياتي على الاطلاق. أتيح لى خلالها أن اعرف بلادي وأهلها وأخالط الفلاحين عن قرب وأعيش في الحقول بين نباتها وحقولها، وآكل بصلها وسريسها، بل وجدت فيهما سعادتى عندما أصبح الحمار يزاملني طول النهار..» كما أن عمل يحيي حقي في الخارجية ذهب به الى جدة ثم اسطنبول سنة 1930.. وقد كتب «قنديل أم هاشم» فيما بين عامي 1939 و1940. وقد نشرت لأول مرة في في سلسلة «اقرأ» العدد 18 يونيو 1944. ويذكر حقي أن بائع كتب قديمة قال له عن «قنديل أم هاشم»: «مش القصة اللي فيها واد بياكل بفتيك في أوروبا وأهله بياكلوا طعمية في مصر!» وبما أننا نتحدث عن باريس كثيرا في الأيام الأخيرة فان يحيي حقي في عام 1949 صار سكرتيرا أول للسفارة المصرية في باريس. وحسب ما ذكره في سيرته الذاتية: «وكان أهم ما شعرت به في باريس، وأعظم ما عشته فيها هو ذلك الإحساس الغامر بطعم الحرية، ولم أكن ذقتها بهذا الشكل لا في القاهرة ولا في جدة ولا في تركيا، ولا حتى في روما». باريس مدينة النور لها دور وأثر وبصمة في حياة يحيي حقي مثلما كانت في حياة رفاعة رافع الطهطاوي وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم. يحيي حقي لمن عرفه عن قرب ولمن قرأ بتمعن كتاباته هو من علمنا نغمات«أنشودة البساطة» وأبجدية«عشق الكلمة» ونبهنا دائما لأهمية الالتفات ل»ناس في الظل». إنه حقي ( وقد توفي في 9 ديسمبر 1992 ) الذي علمنا كيف نرى ونقدر ونثمن الحياة بتفاصيلها العديدة والمتنوعة. لأننا اذا فعلنا ذلك سوف ندرك قيمة ما نعيشه وسوف نتبين معنى ما نحياه. لقد كشف وكتب دائما عن عشقه للكلمة .. وهو يتحدث عن حتمية اختيار اللفظ بحرص ودقة ذكر «هو أن يختار «بضم الياء» كل لفظ بدقة ليؤدي معنى معينا بحيث لا يمكنك أن تحذفه أو تضيف اليه لفظا آخر أو تكتب لفظا بدلا من آخر.. ولذلك قد أكتب الجملة الواحدة ثلاثين أو أربعين مرة حتى أصل الى اللفظ المناسب الذي يتطلبه المعنى.» ثم يضيف:»..وأهمية هذه الدعوة ترجع الى أنها تعود الذهن على عدم استعمال ألفاظ عائمة، معانيها غير محددة، وموضوعة في مكانها بلا سبب واضح.. فمثل هذه الألفاظ لا تخل بالمعنى فقط ، بل تشل قدرة الذهن على التفكير الناضج المحدد.. ولذلك أضيق أشد الضيق باستهانة الكتاب باللفظ واستخدامهم كلمات بلا معنى..». ولا يكتفي بذلك بل يكمل حديثه قائلا: «ولكني أشترط مع ذلك كله ألا يبدو على الكلام أثر من عرق الكاتب وجهده ،بل لا بد أن يختفي هذا كله حتى ليبدو الأسلوب شديد البساطة.. عليك اذا عزفت على العود ألا تسمع الناس خبطة الريشة، واذا كتبت ألا تسمع القارئ صرير القلم». وقراءة هذه السطور تأخذني الى ساعات تأمل وإبحار طويلة في عالم الإبداع أمضيتها معه في منزله بمصر الجديدة في النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الماضي. ولن أنسي أبدا ما برر به الكاتب العظيم في يوم ما عدم استمراره في الكتابة عن طريق الإملاء بعد أن ضعف نظره وهو أمر طرحته عليه اذ قال بأنه بعد أن كان يكتب الكلمة كان ينظر إليها ويتأملها طويلا وقد كان يلاغيها ويدلعها وربما يلاطفها أيضا وفي نهاية المطاف كان إما أن يتركها مع أخواتها من الكلمات الأخريات على الصفحة الورقية وإما كان يسحبها من بين النص المكتوب ويشطبها تماما. وهذه المتعة لن تتحقق وهذا العشق لا يمكن التعبير عنه اذا تحول الكتابة الى املاء.. ويجب أن اعترف بأنني منذ ذلك اليوم بدأت أكتب الكلمات وأقراها بطريقة مختلفة وبنظرة مختلفة عن ذي قبل. وبالطبع كم كنت سعيدا عندما حرص الأديب الكبير ومعه زوجته على حضور زفافي في كنيسة الأرمن بشارع رمسيس ليكون من أوائل المهنئين لنا زوجتي وأنا وذلك بعد أن عرف مني واستمع بالتفاصيل الى حكاية لقائنا الأول وبداية قصة حبنا. هذا الأستاذ العاشق للحياة وهو يسلط الأضواء برضا تام على حياة هؤلاء الذين أسماهم ب«ناس في الظل» برر اقترابه منهم بأنه أحس كما قال بأن «قلوبهم لا تسممها المرارة ولا تضنيها الحسرة، رضوا بحظهم واستراحوا لأنهم سلكوا أنفسهم في نظام الكون وحدسوا حكمته، فلولا الظل لما كان نور، ولولا الغربة لما كان وطن، ولولا الشيخوخة لما كان شباب، ولولا الفقر لما كان ثراء، ولولا حمار الشغل لما تبختر الرهوان.. فهم الشهادة والاستشهاد..». ونعم تعلمت منه أن هكذا الحياة منورة بأهلها .. سواء كانوا في النور أو كانوا في الظل.