جربت الكثير من مؤسسات الدولة اختيار أهل الثقة, على حساب إقصاء أهل الكفاءة, فكان من نتيجة هذا المعيار المعوج, امتلاء كثير من مؤسسات الدولة بالفساد والمفسدين, وهذا أمر لم يعد خافيا على أحد, بل إن بوسع هؤلاء أن يجعلوا هذه الدولة أثرا بعد عين, إن لم يكن قد فعلوها, فى الوقت الذى تلقفت فيه دول الشرق والغرب هذه الكفاءات لتبنى بها حضاراتها, فقامت على أسس من العلم والصلاح والاستقامة, ووقائع الأحوال أكثر من أن تحصيها هذه السطور. فتلك الكفاءات التى أقصيت من تولى قطاعات هامة من قطاعات المجتمع, أثبتت نجاحها حين أتيحت لها مجالات العمل, لتبدع وتبتكر وتتفانى فى إثبات ذاتها ووجودها وخبرتها, فى أرض بعيدة عن تلك التى نشأت وشبت وترعرت بها, حتى إذا ما عن لها أن ترد الجميل لبلدها حوربت محاربة لا هوادة فيها, وكأنها المفسدة التى جاءت لتقوض البنيان, وتقضى على العمران, وتنشر الدمار والخراب فى كل شيء, ألا وإن قائد أول دولة إسلامية صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الأقوياء الذين لهم القدرة على أداء ما نيط بهم, فيوليهم من أعمال هذه الدولة ما يمكنهم إنجازه على أكمل وجه, معتبرا أن تولية العاملين فى الدولة أمانة, لا يقوم بها إلا قوى قادر على أدائها, وإلا لم يصلح ضده من القيام بها, جاءه أبو ذر الغفارى فقال: (يا رسول الله ألا تستعملنى؟, فضرب بيده على منكبه, ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف, وإنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزى وندامة, إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها), وقد شهدت الدولة الإسلامية حقبا من الضعف, ربما كان سببها اختيار أهل الثقة, وإقصاء أهل الكفاءة, فأحدث ذلك صدعا فى جدار الأمة الإسلامية ما زالت تعانى منه حتى يومنا, وإن مصر بما مر عليها من محن وأحداث جسام, ينبغى على القائمين عليها تنقية بدنها الهزيل من العاملين بها المصنفين ضمن أهل الثقة, باعتبارهم بمثابة الخلايا السرطانية, التى تتكاثر تكاثرا غير طبيعي, حيث لا تقنع هذه الفئة بأنها جاءت إلى عملها بطرق غير مشروعة, بل إنها تفتح المجال لاختيار من كان على شاكلتها, وهذا ما يسفر عنه الواقع الأليم, من انتشار الرشوة والفساد فى أوصال الدولة ومؤسساتها المختلفة, فلم يسلم منها إلا النزر اليسير, وكل من يقيم فى هذه الدولة من أهلها أو من غيرهم, يأمل فى غد تشرق شمسه على مؤسسات الدولة دون أن يكون بها مفسد أو خائن لأمانته, تم اختياره مجاملة دون أن يكون له أدنى خبرة بما أسند إليه, وإذا كان الإسلام يحض على إتقان العمل, لما روته عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه), فإن هؤلاء المفسدين لا يتقنون إلا لغة واحدة بعيدة كل البعد عن الصلاح والإصلاح. أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون