تكشف سلسلة الأحداث الارهابية التى قام بها مسلمون من أصول عربية وافريقية، وأودت بحياة العشرات من مواطنيهم الفرنسيين، عن أزمة كبيرة ليس فقط فى فهم الآخر الدينى، بل وأيضا فى فهم الدين نفسه. وعلى رغم أن الحدث الفرنسي وليد جنون ارهابى كامل، من ذلك الطراز الجديد/ الداعشى، فان البدء باستهداف صحيفة (شارلى ابدو) الساخرة التى كانت نشرت رسوما اعتبرت مسيئة للرسول الكريم (ص)، يكشف عن هاجس مركزى يتعلق بحدود العلاقة بين «حرية الاعتقاد» التى يتصور الارهابيون أنهم يدافعون عنها ضد سخرية رسامى الكاريكاتير بالصحيفة، وبين «حرية التعبير» التى انطلق منها هؤلاء الرسامون فى تقديم رسومهم التى أثارت مسلمين كثر عبروا عن غضبهم آنذاك بشكل عقلانى، فيما استجاب الارهابيون لها (الآن) على طريقتهم العدمية. لايحتاج انسان، ناهيك عن كاتب، الى التعبير عن مدى حزنه وعمق ادانته لما جرى من قبل (مسلمين)، فتحت فرنسا لهم أو لآبائهم، أبوابها، ومنحتهم جنسيتها، وأتاحت لهم فرصة العيش بها، حتى وان لم يكن عيشا رغدا، فاذا بهم يقتلون مواطنيهم، ويروعون مجتمعهم. الادانة الكاملة هنا سلوك مبدئى يقتضيه الانتماء للانسانية، وسلوك أخلاقى يفرضه الانتماء للاسلام، لكن الأكثر أهمية هو ما بعد الادانة، أى ضرورة الفهم. تنطلق محاولة الفهم هذه من نقطة أساسية تتعلق بجوهر الاعتقاد، والجذر الذى ينبع منه داخل الكيان الانساني، فالأديان لا تنتمى الى عالم العقل المحض بل تعلوه، والايمان لا يأتى استدلالا من مقدمات تفضى الى نتائج منطقية، بل هو الهام يأتى من داخل ومن بعيد، من عالم الروح الجوانى، ومن قوة الادراك الباطني، فلا سبيل اذن الى التحكم به.. وهكذا لا يمكن الحكم على عقيدة ما بأنها صحيحة أو خاطئة، فتلك معايير عقلية تتفق وممارسة العلم التجريبى بينما تقصر عن ادراك اليقين الدينى، ومن ثم فالسؤال الصحيح الذى يمكن طرحه فى مواجهة الايمان على كل انسان هو: هل يلهمك هذا الاعتقاد أم لا؟. يعكس هذا الفهم علاقة تكاد تكون (فطرية) بين الانسان وايمانه، لا يمكن اقتحامها بذريعة حرية التعبير، التى هى أساسية ولكنها ليست فطرية، اذ تعد أحد أبرز مكتسبات الحداثة الثقافية والاجتماعية، وهو أمر يفرض تقييدها ازاء حرية الاعتقاد، الأكثر أصالة منها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بثقافات ومجتمعات أخرى، قد يكون لها معاييرها الذاتية فى صوغ العلاقة بين المقدس والدنيوى. ولعل غياب تلك الحدود الواضحة، هو ما يدفع بعض التيارات الفكرية على جانبي الثقافتين، الاسلامية والغربية، الى محاولة اقتحام الجانب الآخر، على نحو هدد دوما بتقويض احدى الحريتين، واشعال الحرائق المتوالية، التى لم يكن الحدث الفرنسي أولها بالقطع، ولن يكون آخرها فى الأغلب. على الجانب الغربى يمارس تلك النزعة الاقتحامية تيار عنصرى يشكل ما بين 10 20% من المجتمعات الأوروبية، يشكل بعضهم أحزابا كالجبهة الوطنية فى فرنسا، والوطنيون الأوروبيون (بيجيدا) فى ألمانيا، والذين قاموا مؤخرا بتظاهرات عدة انطلقت من مدينة دريسدن فى الشرق الألمانى، ضد المسلمين من ذوى الأصول غير الأوروبية، خوفا على الهوية المسيحية والأوروبية لألمانيا. هذا التيار العنصرى يتجذر فى نزعة المركزية الأوروبية، التى جسدت، منذ القرن التاسع عشر، نزعة استعلائية، تدعى للغرب سموا عرقيا ودينيا، وتفترض لتاريخه النقاء الثقافى والأصالة الفلسفية الممتدة فى الجذر اليونانى. وبينما تتحيز الثقافة الغربية لحرية التعبير على حساب حرية الاعتقاد، على نحو يسحق كل اعتبار للمقدس المسيحي، اذ تبيح النقد الجذري للكتاب المقدس، والتجسيد الكامل للمسيح، بل تقع دوما فى غواية نقده، وأحيانا فى فخ الاساءة اليه، فان التيار العنصرى، خصوصا، يسعى الى فرض تلك التحيزات على الثقافة الاسلامية، عاجزا عن تصور عمق رفض الضمير المسلم لوضع الرسول الكريم موضع التجسيد ناهيك عن الاساءة. وعلى الجانب الاسلامى تتجذر تلك المحاولة الاقتحامية فى تيار متطرف يصدر عنه ما يشى بالرفض المطلق لحرية التعبير، ويتورط فى عنف عدمى يحول دونه وبناء موقف أخلاقى مضاد يقوم على نقد معرفى لمسلمات العنصرية الغربية. فاذا كان قس أمريكى، مثلا، قد أساء للقرآن الكريم، فان هؤلاء المتشددين المسلمين أحرقوا الانجيل أمام السفارة الأمريكية مثلا. واذا كان العنصريون الأوروبيون يحرضون ضد ذوى الأصول المسلمة، فان أئمة المساجد المتشددين لا يتورعون عن وصف اليهود والمسيحيين ب «أبناء القردة والخنازير». يكشف هذا السياق، عن عدم اتساق أخلاقى على الجانبين، ولكنه أكبر كثيرا لدينا، فالارهاب الذى يؤدى الى القتل والترويع، يعكس نوعا من الخسة، لا يدانيه مجرد التجاوز فى حرية التعبير. كما أنه يشوه ليس فقط ديننا، بل يكشف عن طبيعتنا السلبية كجماعة ثقافية تفتقد للثقة بالذات، وتفتقر للقدر الكافى من الأخلاقية والمبدئية والروح الانسانية التى يفترض أن نستند اليها، كى نصل الى موقف أكثر ايجابية على صعيد قضيتنا الأساسية وهى حماية معتقداتنا من الازدراء. من حسن الحظ أن ثمة عقلاء لا يزالون فى الغرب، فوزير الداخلية الفرنسي، من قلب المحنة، يؤكد أن بلاده فى حرب مع الارهاب وليس مع أنصار دين معين (الاسلام). والألمان الذين يتظاهرون ضمن حركة بيجيدا ليسوا فقط قليلى العدد، بل يواجهون مظاهرات لعشرات أضعافهم تصفهم بالنازيين الجدد، وتدافع عن التعدد الثقافى ببلادهم. وفى موازاة ذلك يتوجب علي عقلائنا التحلى بروح تسامحية تتجاوز ادانة متطرفينا، الى الاعتذار للشعب الفرنسى العظيم، عما ارتكبوه من آثام، بحق الحرية والتسامح والسلام.. فعذرا بلد التنوير وعاصمة النور. لمزيد من مقالات صلاح سالم