من أبرز المفارقات فى ثقافتنا العربية المعاصرة، ان السياسة تولت المهمة نيابة عن الأدب فى تقديم مشاهد سوريالية ودادائية، وما تردد فيه الشعراء والفنانون التشكيليون او جربوه على استحياء قدمته النخب السياسية بجرأة ووضوح، لهذا كان الاجدر بالمشتغلين فى السياسة ان يصدروا بيانا من طراز ذلك البيان الذى اصدره الفرنسى انطونين آرتو حول مسرح القسوة، فهذا الكاتب قرر فى لحظة حرجة ان ينقل الحياة بكل خشونتها الى خشبة المسرح، وكأنه يقدم اطروحة معاصرة بل مضادة لما سمى الكاتارسيس او التطهير على المسرح الكلاسيكي، ان ما جرى فى اوروبا خلال النصف الاول من القرن العشرين كان فادحا بمعيار سياسى واقتصادى من حيث الخسائر وفاضحا بمعيار اخلاقي، فالحربان العالميتان تسببتا فى قتل وتشريد عشرات الملايين من البشر مما دفع الجيل الذى ولد بين الحربين الى الشك فى كل موروثاته الثقافية والاخلاقية وقد يكون هذا الشك هو احد اسباب ظهور تيارات ادبية مجنونة، لكن عالمنا العربى منذ ستة عقود على الاقل عاش حروبا من طراز آخر وودع القرن العشرين بحروب عربية عربية كانت اقرب الى الانتحار القومي، لأن الهزيمة وزّعت بالتساوى بين كل الاطراف وحذفت النقطة الفارقة والحاسمة بين العار والغار، لأن القاتل عربى وكذلك القتيل، ورغم تقمّص ثقافتنا لكل مظاهر الحداثة وما بعدها الا ان ادبيات ايام العرب كحرب البسوس وداحس والغبراء مكثت فى الذاكرة واللاوعي، كما ان الهجاء السياسى اعيد انتاجه لكن بدرجة عالية القسوة. لم يقدم المسرح فى ذروة قسوته مشاهد كالتى تبث على الفضائيات العربية على مدى الساعة، بدءا من القبور الجماعية حتى الذبح بالسكين كما لو ان الانسان خروف او دجاجة، ومن مارسوا ذلك لم يرف لهم جفن لاعتقادهم انهم يكافأون على ما يقترفون من جرائم، وتلك بالطبع مفارقة تاريخية اخرى، أوصلت الالتباس فى المعايير ومنظومة القيم الى اقصاه، وأصبح الناس بحاجة الى بوصلة جديدة بعد ان اصاب العطب كل بوصلاتهم الموروثة، ان ما يتردد الان على الشاشات من الهجاء السياسى المتبادل لم يبلغه من قبل شعراء النقائض، ولم يخطر ببال الحطيئة الذى اوصى ذريته بالمسألة، والمسألة بالنسبة اليه ليست شكسبيرية وجودية حول الكينونة والعدم بل هى الكديّة وتحويل التسول الى نمط انتاج، ومثلما حذفت حروب القبائل التى رفعت شعار ظلم ذوى القربى الاشد مضاضة النقطة الفارقة بين العار والغار حذف الفضاء العربى نقطة مماثلة هى الفارق بين الحوار والخوار، فالحوار اعتراف بالآخر، وبالندية بينما الخوار فى لغتنا هو صوت الثيران الهائجة. حوار بالمقاعد ومنافض السجائر وأحيانا بالأحذية، وتخوين وتجريم بلا أى قرائن او حيثيات، بحث بدت تلك المشاهد اشبه بحفلات تنكرية ارتدى فيها الحطيئة ربطة عنق حريرية، ووضع فيها الفرزدق نظارة انيقة على عينيه اما السيدة البسوس فقد ارتدت الجينز الضيّق وصبغت شعرها وصوتها معا لتقدم مشهدا من الاستربتيز السياسي، وهو أنكى وأخطر من أى ستربتيز آخر!. لم يشهد العالم العربى من قبل مثل هذه السهولة فى التخوين والطعن والاستباحة مما يجزم ان ما قاله عالم النفس المصرى د.مصطفى حجازى فى كتابين عن سايكيولوجيا المقهورين والمهدورين هو مجرد دوزنة بانتظار العزف، اما سنوات ما سمى الربيع العربى فقد أتاحت لسبعة مكبوتات على الأقل ان تندلع بتزامن كارثي، بحيث قاءت هذه التضاريس أحشاءها، وكان المنجز الاكبر لهذا الربيع الذى لم يعلنه السنونو كما يقول مثل انجليزى بل اعلنه غراب دهن ريشه الاسود باللون الابيض كى يتنكر فى صورة حمامة، هو اختبار المكونات والمرجعيات فى الشخصية العربية التى تراوح وصفها لدى علماء الاجتماع بدءا من سيد ياسين مرورا بعلى زيعور ومصطفى حجازى وليس انتهاء بصادق العظم وحامد عمّار بين الجريحة والمقهورة والمهدورة والفهلوية، ليس لأنها من طبيعة اخرى او تشكو من خلل جيني، بل لأن الاستبداد وتحالفه مع الارتهان والغزو الخارجى أعاد انتاجها ونزع منها أصالتها بحيث حوّلها تكرار التأقلم وفائض المكبوتات الى حرباء تبدّل لون جلدها طلبا للنجاة. وقد يستخف البعض بمصائر زعماء عرب نكّل ببعضهم علانية وشنق آخرون، والحقيقة ان هذه المصائر التراجيكوميدية سيكون لها أثر بالغ من الناحية التربوية على جيل تتشكل ثقافته الآن، فمن شاهد اباه يصفّق لعدة عقود لزعيم ثم شاهده يصفق لشنقه سوف يشك بكل ما سمع من مواعظ، وقد تتكرر لديه تجارب شباب اوروبا فى مرحلة ما بين الحربين، وما نشاهده ونسمعه الآن عن التردى الاخلاقى وحالة التيه وانتشار المخدرات الوبائى والشذوذ العلنى هو مؤشرات اولى على مستقبل يتهدده الخطر. ان القسوة الآن فى ذروتها، سواء من حيث الهجاء السياسى المتبادل او الممارسات الثأرية والكيدية، بحيث اصبحت نبوءة ديستويفسكى الشهيرة وهى فى غياب الكوابح سيكون كل شيء مباحا ومتاحا قابلة للتحقق. ان ما قصر الادب فى التعبير عنه من اعدام رمزى وسوريالية ودادائية قدمته السياسة، فنحن ليس لدينا مرادف لسلفادور دالى ينشر الزمن فى ساعات ممطوطة، او يجعل لجسد الانسان ادراجا كالمكاتب، لكن المجال السياسى قدم منذ عقود من هوأغرب من سلفادور وبيكاسو وكافكا، لهذا كانت الخسائر فادحة لأن الفنان حتى فى اقصى هذيانه لا يلحق ضررا بالغا بالشعوب اقتصاديا وسياسيا، لكن الحاكم عندما يكون سورياليا فإن اشهر لوحاته قد تصبح شعبا من المسوخ، يأكلون بعضهم أحياء وموتى! لمزيد من مقالات خيرى منصور