منذ زمن بعيد ، ربما منذ السطوة المبكرة للديانات ، وجد رجال المال كهنة وفلاسفة ومثقفين من الحقوقيين والأخلاقيين التطهريين يستطيعون، في أي وقت وتحت أية لافتة، أن يدافعوا عن أكثر صور الاستغلال والاستعباد بشاعة وانحطاطا. وقد كان الأحبار والكهنة والأئمة في مقدمة من حملوا تلك الراية ضد البشر. في أوروبا دافع رجال الكنيسة عن المال ورجاله، وينقل ماكس فيبر عن ريتشارد باكستر أحد أكبر القساوسة التطهريين في انجلترا قوله التاجر الذي ينجح في تعظيم ثروته سيعرف أن الله اصطفاه، وفي الإسلام تقول القاعدة الشرعية إنه لا حد للمسلم في امتلاك المال وردا علي تحذير من يكنزون المال يقول عبدالله بن عمر: ما أديتَ زكاته فليس بكنز، وكان ذلك ردا علي تدخل أبي ذر الغفاري لدي معاوية لإثنائه عن قولته المال مال الله. كان أبو ذر يري أن المال مال المسلمين وما يكنزه المسلم بأكثر من قوت يومه فهو حرام ، وكان نتاج ذلك أن نفاه عثمان بن عفان، وكان السؤال المؤرق الذي طرحه الرجل منذ خلافة أبي بكر أنه: ماذا لو نفد ما في بيت المال؟ هل نترك المسلمين للجوع؟ وكان جوابه: حتمية الأخذ من مال الأغنياء، فكانت الغضبة ضده واسعة ومازالت تضج بها كتب الفقه. هذا هو التاريخ الذي وضع معني كفاح الفقراء والمهمشين ضد الاستعباد ضمن قاموس سيء السمعة لدي رجال المال لدرجة دعتهم إلي عقد المؤتمرات وسن التشريعات لاستئصالها من القواميس، فقد قاوم رجال المال كل أشكال العدالة، وكانت الأثمان إلي ذلك باهظة، لكن من دفعوا تلك الأثمان كانوا دائما من بين المعدمين والمقموعين، ويبدو أنهم مستمرون في السداد حتي أيامنا. ولا أتصور أن أخطر المعاني التي طرأت علي قاموس الرئيس السيسي في الأيام الأخيرة بعيدة عن تلك الإشكالية التاريخية. حيث تحول خطابه عن التغيير كحتمية آنية كلية وشاملة إلي كونه مفهوما جزئيا يقبل التأجيل، محكوما في قوله هذا بظروف تبدو للوهلة الأولي أكثر رشدا، تنتهي إلي أن هذا الطريق يمثل حتمية تبدو وحيدة للحفاظ علي مؤسسات الدولة من الانهيار. وهنا ثمة مقتضيات وطنية تستوجب الإشارة إلي أن غياب المغامرة والخيال السياسيين تحت الذرائع نفسها أهدر منطق التغيير وفلسفته وحدوده علي امتداد الأربعين عاما الماضية. غير أن أخطر ما في تصريحات الرئيس أنها تمنح الأمل لأعداء التغيير في تحقيق انتصارات جديدة علي ثورتين كبيرتين، وقد ينتهي الأمر بنجاح تلك الكيانات المعنية بالتطهير والتغيير في تغيير الرئيس نفسه عبر عشرات من أدواتها الضاغطة تنكيلا أو تضليلا. فقد تأكد بما لا يدع مجالا لأي شك أن الميراث الباهظ لفساد نخبة المال والأعمال أكبر من احتوائه عبر الأصابع المهذبة للدولة تحت لافتة مضللة هي دولة القانون ، ذلك لأن القوانين التي تحكم واقع الثورة تعمل ضد الثورة بامتياز، وهي بالتأكيد قوانين لم تقم بسنها الجماعة المقموعة، فتلك الجماعة لم تكن في أي وقت ضمن تمثيلات الهيئة الاجتماعية حتي هبوب ثورتي الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو ، وهاهي الجماعة نفسها تعود بها أقدارها التعسة خالية الوفاض ، ليتحصل مكسبها الوحيد في عودتها إلي قصائد الحالمين من الشعراء باعتبارها عنوانا مخمليا لثورتين كبيرتين. وأتصور أن عشرات من دعاة تقنين الماضي بكل جرائمه من حقوقيين معروفين وأكاديميين مرموقين سيلهجون بعشرات العرائض المضللة عن الحقوق المكتسبة لرجال المال ومن ثم فالأنجع لدولة القانون هو احتواء الجريمة وليس نبش قبرها. وأتصور أن التاريخ الاستثنائي الذي غير من مسارات الشعوب بدأ بوضع رقاب هؤلاء المزورين في مقدمة المقصلة. فهؤلاء الرجال الذين طبخهم رجال المال في مطابخ الفساد أخطر من رجال المال أنفسهم. ولأن العدالة حق للشعوب علي ثوراتها ، فهي لا تُنتزع سوي في لحظات استثنائية تتجاوز بالضرورة فكرة القانون لأن فكرة العدالة هنا تتعرض لأكبر عملية تضليل في تاريخها. وقد عبر الدكتور محمد مندور عن هذا المعني في كتابه الخطاب السياسي ووعي الثورة عندما وصف التأميمات في الحقبة الناصرية قائلا: إنها العدل الذي قد يشبه الظلم ، والمعني هنا أن قانون التأميم يبدو اعتداء علي ملكية الآخرين من حيث شكله لكنه من حيث مضامينه يتحصن بعدالة شبه سماوية لأنها حررت ملايين المستعبدين من نير من كانوا، بالأمس، أسيادهم. ويذكر الكاتب الأمريكي إدوارد بلوم في كتابه الدولة المارقة أن مجلس شيوخ ولاية كاليفورنيا أصدر قانونا عام 1994 بدا شديد الغرابة في المدونة التشريعية الأمريكية، حيث قرر وضع أي دخل للمجرمين المدانين في جرائم خطيرة في صندوق ائتماني لصالح ضحاياهم، ودخل ضمن هذا المفهوم من يرتكبون جرائم إرهاب وسطو وتجارة مخدرات ورجال مال احتكاريين يهددون بتكدير حياة الناس. إن رأس المال في مصر لن يذهب طائعا إلي مسئولياته الأخلاقية والاجتماعية شأنه شأن كل الكيانات المتوحشة، وأظن أن السفور الذي بدا في سلوك رجال أعمال معروفين تجاه الرئيس والدولة الجديدة كفيل بتأكيد تلك الرسالة المؤلمة، لذلك فثمة صراع يبدو طويلا هدفه كسر إرادة الدولة ليعود النظام السياسي صاغرا إلي المنطقة الدافئة التي يوائم فيها بين فقراء يتضورون جوعا ، وبين وحوش تستثمر هذا الجوع عبر بعض الإحسانات والعطايا التي ستظل مثالا صارخا علي وضاعة هؤلاء الذين ورثوا المال لكنهم لم يرثوا مسئولياته الأخلاقية حسب تعبير الشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر. ولا يخفي علي عامة المصريين وخاصتهم أن ردود أفعال الغالبية العظمي من رجال المال تجاه صندوق تحيا مصر الذي أنشأه الرئيس ليمنحهم الفرصة للاغتسال من ماضيهم ، ليس سوي تعبير شديد الفجاجة بالمعنيين السياسي والاجتماعي عن أكثر أشكال الإقطاع والاستغلال بذاءة. فهو في أحسن أحواله يعكس فهما متغطرسا لسلم القيم الاجتماعية ويزداد غطرسة كلما اشتم كلمة العدالة. لذلك علي الرئيس أن يدرك مبكرا أنه مازال يمثل صوتا لمن لا صوت لهم ، ومازال يمثل أملا لملايين من المهمشين في معركة البطون الخاوية، التي ستأتي علي الأخضر واليابس إذا رأت أن هذا الأمل يتسرب إلي غير مستقره. لمزيد من مقالات محمود قرنى