1 كان الطبيب يجلس وراء مكتبه وقد فرد تذكرة الدواء القديمة أمامه, وكان يتطلع إليها ويحرر التذكرة الجديدة والسماعة مدلاة حول رقبته. كنت عدلت من وضع ملابسي وجلست أمامه أتابعه, وإلي يميني كانت الستارة المعلقة في الماسورة الحديدية ملمومة إلي نصفها عن مساحة من سرير الكشف الضيق, وعند رأس هذا السرير كان جهاز رسم القلب موضوعا أعلي الدولاب القصير. وأنا حدثت الطبيب قائلا إنني, يادكتور, كلما فتحت الحنفية, أو تناهي إلي سمعي خرير الماء, ألحت علي الرغبة في التبول, ولاأرتاح إلا إذا فعلت. وهو سمعني وقال: لا يقلقنك مثل هذا الأمر أبدا, لأن الشيء, دائما, بالشيء يذكر. 2 بما أن الشيء بالشيء يذكر, فلا بد وأن ما أتذكره الآن من دون ترتيب, هو استجابة لخرير من نوع ما, نعم. خرير يستدعي طرفا مبهما من حكاية تروح تحكيها كما تشاء حتي ترتاح فتسلمك إلي خرير آخر. وأقول لنفسي مادامت الذاكرة لم تعد تسعفك فأنت أكثر حرية من أي وقت مضي. وأراني الآن وقد أودعت ربطة الخطابات الأخيرة في الثلاجة المعطوبة بحوش البيت وأقف علي المحطة منتظرا الترام, وأنا أشعر بالقلق مما أحاط بي في الأيام الأخيرة. كان لدي إحساس بأن الإدارة علمت بأمر هذه الخطابات المركونة, وأن هناك من يتبعني, وعندما توقف الترام ومددت يدي أمسك بالمقبض النحاسي الأصفر فوجئت بمن يضع يده تحت إبطي ويصعد. جلس إلي جواري وقال: علي فين؟ التفت ووجدته المفتش العجوز كبير البطن في بدلته الكاملة, وقلت علي الفور أنني نسيت استلام الخطابات المسجلة وعائد لاستلامها. 3 بعد أن ينتهي كل منا من إعداد خطاباته العادية بالطابق الأول, نهبط لاستلام الخطابات المسجلة من عند أمين في الطابق الأرضي. هي قليلة ولكنها مهمة, وأنا لم أستلمها طول الفترة الماضية. وكان المفتش أخذني وصعدنا من الباب الخلفي لحجرة المفتشين. كان هناك واحد آخر أخبره أنني تركت البوستة بالمنطقة, وهم طلبوا العنوان لكي يذهبوا لإحضارها حتي لا يعبث بها أحد, أعرف أن مخالفة ترك الخطابات بالشارع تستوجب الرفت فورا. وقلت إني لا أعرف العنوان الذي تركتها فيه, ولكنني أعرف المكان. وهو اتصل لإعداد سيارة تأخذنا إلي هناك, بينما انشغل الآخر بارتداء سترته. ولما كنت في فتحة الباب انطلقت. لم يكن بوسع أحد أبدا أن يلحقني. في لمح البصر كنت اجتزت الطرقة الطويلة إلي ميدان العتبة ثم وجدتني أجلس بالمقهي في ميدان الكيت كات أشرب الشاي مع مستشارنا القانوني, صديقنا طالب الحقوق, فتحي حسين إبراهيم. 4 استدعينا توفيق وحمادة وجونيور الذين جاءوا علي عجل. ولم يلبث الرأي أن استقر علي قيامي باستلام الخطابات المسجلة, ثم ذهابنا جميعا إلي المنطقة وتوزيعها مع كل الخطابات المركونة. كانت الساعة اقتربت من العاشرة. دخلت المصلحة ووقفت عند السلم وناديت علي أمين الذي ظنني قادما من عند الإدارة, تطلع إلي متشككا من وراء النافذة المفتوحة ورأي جونيور الذي رافقني وهو يضحك له بوجهه الأجنبي. استلمناها وتوجهنا إلي المنطقة وأفرغنا ما كان في الثلاجة وحمل كل منا مجموعة من الربط وقمنا نحن الخمسة بتوزيعها. 5 بعدما انتهينا جلسنا علي رصيف المقهي نشرب الشاي وندخن. كانوا فرحين بالمهمة التي قاموا بها. تداولنا واستقر الرأي علي أن أذهب غدا صباحا كالمعتاد. إذا سألني أحد عما حدث فإن علي أن أستغرب وأنكر حدوثه أو معرفتي به. فتحي حسين قال أنت قمت بعملك. وزعت الخطابات العادية ووزعت الخطابات المسجلة ولم تلتق بأي أحد, سواء كان مفتشا أو غيره. وجونيور تطلع إلي وقال: عبدالله, إنت خايف؟ وأنا قلت: خايف أيه يا جدع وهو انفجر ضاحكا. بينما أضاف فتحي وهو ينقر بكعب القلم علي رخامة الطاولة: موقفك القانوني سليم مائة بالمائة. لو أنكرت لن يستطيع أحد أن يثبت عليك شيئا. وللكلام بقية [email protected] المزيد من مقالات إبراهيم اصلان