فتح الرئيس الأمريكى باراك أوباما ونظيره الكوبى راؤول كاسترو فصلا جديدا فى العلاقات بين البلدين بقرارهما استئناف العلاقات الدبلوماسية بين بلديهما بعد حقبة طويلة من العداء والقطيعة استمرت لأكثر من نصف قرن. ورغم أن هذا التقارب جاء نتيجة لجولات من المفاوضات السرية الثنائية الناجحة بين الجانبين باستضافة كندية ووساطة الفاتيكان، فإن المؤكد أن لكل من واشنطن وهافانا من الدوافع ما حمله على اتخاذ هذه الخطوة التى لن تكون على الجانب الآخر بمنأى تامٍ عن السلبيات والمساوئ لأى منهما. فعلى الجانب الأمريكي، يعد قرار تطبيع العلاقات مع كوبا خطوة ذكية من جانب أوباما أراد بها ضرب عدة عصافير بحجر واحد، بمحاولة تحسين صورته الشخصية والظهور أمام خصومه الجمهوريين بمظهر الحاكم المبدع الذى يضيف الجديد إلى صفحات التاريخ الأمريكى خلال فترة حكمه، وهو ما استعصى على نظرائه السابقين صنعه، مما سيساعد بدوره فى رفع أسهم حزبه الديمقراطى خلال انتخابات الرئاسة المزمع إجراؤها عام 2016، ولا سيما لدى الأمريكيين من أصول لاتينية وعشاق القيام برحلاتهم السياحية إلى كوبا. ويعضد هذا الطرح ما فعلته مجلة "فيجا" البرازيلية التى تناولت قرار أوباما بشأن كوبا بطريقة مميزة، إذ نشرت صورة غلاف تحمل صورة مركبة لأوباما على نمط الصورة الشهيرة للمناضل الأرجنتينى تشى جيفارا، وكتبت على الغلاف عنوانا يقول "الصديق الأمريكي"، تعبيرا عن الشعبية الهائلة التى اكتسبها أوباما فى المنطقة بهذه الخطوة. ومن المؤكد أن أوباما أراد أيضا من وراء هذا القرار تحسين صورة بلاده فى الداخل والخارج، وبخاصة أمام أولئك الذين لا يرون ثمة مبرر مقنع لاستمرار الحصار الاقتصادى الأمريكى على كوبا، و التى دفع شعبها ضريبتها أكثر من حكومته، وهو ما أكده الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر حرفيا فى مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية عقب زيارتين قام بإحداهها إلى كوبا والأخرى لكوريا الشمالية. ولا شك فى أن من بين الدوافع أيضا ما يتمثل فى أخذ أوباما بعين الاعتبار للانتقادات الدائمة لبلاده من قبل الجماعات الحقوقية والمنظمات الدولية، إضافة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتى أدانت فى أكثر من دورة استمرار الحصار الأمريكى على كوبا باعتباره متنافيا مع المواثيق والأسس التى تنظم العلاقات بين الدول. كما أخذ الرئيس الأمريكى بعين الاعتبار أيضا أن التقارب مع كوبا يمكن أن يسهم إيجابا فى تغيير الطريقة التى تنظر بها مختلف دول أمريكا اللاتينية لواشنطن، وخاصة فنزويلا وتدفع عواصم تلك القارة إلى التقارب مع بلاده التى مثلت سياستها العدائية مع هافانا عائقا كبيرا أمام تقدم علاقاتها مع بقية العواصم اللاتينية، وهو ما يمكن وصفه بأحد أقوى الأسباب التى جعلت أوباما يقدم على هذه الخطوة. فهى الرغبة الأمريكية فى إغلاق نهائى لفصل من تاريخ بلاده كدولة "متنمرة" فى المنطقة ، بجانب محاولته لتغطية عامل الإخفاق فى سياسته الخارجية المليئة بالأخطاء، وتقليص عدد الأعداء والتفرغ لقضايا أكثر أهمية كملفى "داعش" والأزمة الأوكرانية. وأما على الجانب الكوبي، فهناك دوافع قوية حملت الرئيس كاسترو على اتخاذ هذه الخطوة، أهمها اقتصادية تمثلت فى توديع السياسة الاشتراكية المتشددة والقديمة وإحلال سياسة أخرى براجماتية أكثر سهولة بدلا منها، بحيث يمكن أن تسهم فى تحسين أوضاع مواطنيه المعيشية وتخفف من أعباء الدولة تجاههم من خلال السماح لمزيد من الأمريكيين بدخول كوبا التى تعد السياحة أكبر مصدر لدخلها القومي. كما ستساعد الخطوة أيضا فى زيادة التحويلات المالية للكوبيين العاملين بالخارج لا سيما بالولاياتالمتحدة إلى مسقط رأسهم، وفى رفع حجم التبادل التجارى بين البلدين التى تعد شواطيء مدينة ميامى أقرب للعاصمة الكوبية هافانا منها إلى الكثير من المدن الأمريكية الأخرى، فضلا عن إسهامها فى وصول المنتجات الكوبية إلى الأسواق الأمريكية، خاصة سيجار "الهابانو" الشهير الذى ستستقبل أمريكا خلال يناير الجارى أول شحنة منه بصورة قانونية بعد أن كان التهريب هو الطريق الوحيد لإدخاله إلى أثريائها. وأما دبلوماسيا، فإن اتفاق التقارب مع واشنطن سيمكن هافانا من إعادة فتح سفارتها بالولاياتالمتحدة، مما سيسهم بدوره مستقبلا فى رفع أسماء بعض المسئولين الكوبيين من قائمة المحظور دخولهم إلى الأراضى الأمريكية، وهو ما يمكن وصفه بأحد أكبر المكاسب السياسية لكوبا. وحتى معلوماتيا، فإن التقارب سيفتح الباب أمام استخدام الكوبيين للإنترنت الذى كان مقطوعا عن معظمهم. ومرحليا، لم تر هافانا أى ضرر من خوض التجربة والانفتاح فى علاقاتها على الولاياتالمتحدة لوضعها على قيد الاختبار، وإلا فإنها ستعود لسابق عهدها من القطيعة والعداء لواشنطن فى حالة ثبوت العكس. وفى المقابل، يعد التقارب مع الولاياتالمتحدة بالنسبة لكوبا خطوة محفوفة بمخاطر أولها منغصات وآخرها تحديات. وتتمثل الأولى فى إمكانية انقلاب السحر على الساحر وتحول التقارب مع واشنطن إلى ذريعة للإطاحة فى المستقبل بالنظام الكوبى الذى دأب على استخدام العداء لأمريكا والأمريكيين كأداة لاستمرار حكمه وتبريرا لدولة الحزب الواحد بها. وتكمن التحديات فى بعض العقبات التى ما زالت هافانا تواجهها حتى اللحظة كحتمية رفع واشنطن للحصار الاقتصادى المفروض عليها، وإلغاء تصنيفها كدولة راعية للإرهاب، وتفعيل هذه القرارات وضمان عدم تغييرها مستقبلا فى حالة وصول أى مرشح جمورى للبيت الأبيض خلفا لأوباما. وتتمثل أكبر التحديات التى يمكن أن تواجهها كوبا أيضا جراء هذا الاتفاق فى احتمال فقدانها تحالفا استراتيجيا واقتصاديا واجتماعيا قويا مع فنزويلا، خاصة فى حالة رفض الأخيرة المضى قدما فى العلاقات مع كوبا على نفس منوالها الحالى بسبب التقارب مع واشنطن، خاصة وأن هافانا تعتمد على كراكاس فى الحصول على معظم احتياجاتها من البترول، فضلا عن أن أكثر من 40 ألف مواطن كوبى يعملون بفنزويلا خاصة فى قطاعات الطب والرياضة. وبدورهم، فلن يسمح الجمهوريون باكتمال تنفيذ الخطوة على الوجه الأكمل، وسيحاولون مرارا عرقلة التطبيع الكامل للعلاقات مع كوبا من خلال التصويت ضده فى الكونجرس بغرفتيه النواب والشيوخ، وهو ما سيجعل أوباما فى النهاية يلجأ إلى "الفيتو" الرئاسي، وحتى وإن فعل ذلك فإن ما سينجزه سيظل عرضة لهدمه وتغييره فى حالة وصول غيره إلى سدة الحكم فى بلاده ممن يرفض تبنى سياسياته. وإذا كان الإفراج عن 3 جواسيس كوبيين وسجينين طالبت بهما الولاياتالمتحدة ليس سوى الجزء المرئى من الاتفاق، وإذا كان تصدير مختلف السلع الكوبية بالجملة إلى الولاياتالمتحدة سيتطلب موافقة الكونجرس على رفع الحظر أو أن يعلن أوباما استثناء السيجار من هذه العقوبات بموجب قانون "التجارة مع العدو"، فإن الأمر يتطلب تقديم الجانبين للعديد من التنازلات لإثبات حسن النيات وإتمام كافة الاتفاقات. ولكن الحقيقة تقول إن الطرفين مستفيدان بشكل متساو.