غرار ما حدث عقب رحلة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون إلي الصين الشيوعية عام 1972، يبدو أن شبه جزيرة كوبا ستعرف عصر الازدهار، إثر قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما إعادة العلاقات مع هافانا عقب قطيعة استمرت لأكثر من نصف قرن.. قرار أعلنه أوباما من مكتبه البيضاوي، ولا يمكن وصفه إلا بالوضوح والتاريخي والشجاع. واضح لأنه كما قال أوباما نفسه: ألا يمكن أن نستمر في نفس السياسة لأكثر من خمسين عاماً ثم نأمل في الحصول علي نتائج مختلفة، (فالاستراتيجية الأمريكية ظلت ثابتة جامدة بينما العالم بأكلمه يتغير، والرئيس السابق فيدل كاسترو، الذي تنازل عن السلطة لأخيه عام 2008، عاصر ما يقرب من 11 رئيساً أمريكياً، والحظر الأمريكي الذي يسميه الكوبيون حصاراً لم يكن عقاباً للشعب وحسب وإنما كان ذريعة للنظام الكوبي لكي يصور نفسه طوال الوقت كضحية لأطماع إمبريالية، واتخذه كاسترو ومن بعده أخوه راؤول كمبرر لتسويق وإرساء دعائم الأيدولوجيا الشيوعية. انهيار الاقتصاد الكوبي عقب تفككك الكتلة السوفيتية، التي كانت له عونا وسندا، دفعت النظام، في مطلع التسعينات، للقيام بإصلاحات علي استحياء، هذا فضلاً عن أن فنزويلا الغنية بالبترول في عهد هوجو شافيز كانت دائما إلي جانب النظام الكوبي كلما اشتد عليه الحصار وضاقت عليه الأرض بما رحبت، غير أن فنزويلا نفسها أصبحت اليوم في أزمة عنيفة إثر تهاوي أسعار النفط عالمياً، وبالتالي فإن انفتاح الاقتصاد الكوبي بات ضرورة ملحة، لذا فإن تخفيف التدابير المالية والتجارية التي أعلنها أوباما في التعامل مع كوبا جاءت في وقت حاسم لمساندة القطاع الخاص وشباب رجال الأعمال في هافانا. قرار أوباما شجاع، إلا أنه كان مقامرة غير محسوبة لكل الرؤساء الأمريكيين، لاسيما أن اللوبي الكوبي اليميني المتواجد في الولاياتالمتحدة الذي كان لديه دائما شعور بأن ثورة كاسترو حرمتهم من حق العيش في بلادهم، إضافة لمتشددي اليمين الأمريكي أنفسهم، كانوا عائقاً أمام كل من تولي زمام الأمور في البيت الأبيض من العمل علي تحسين العلاقات مع كوبا، بل إن أوباما نفسه الذي بدأ العمل علي الملف الكوبي منذ عام 2008، انتظر 6 أعوام قبل أن يتخذ خطوة فعلية، واختار الرئيس الأسمر تكتيك القفز للأمام بدلاً من السير بخطوات بطيئة، وكان لديه كل الحق في ذلك، لأنه أخذ في اعتباره التطور الديموجرافي للاجئين الكوبيين المقيمين في الولاياتالمتحدة، ومعظمهم وُلد بعد ثورة كاسترو في عام 1959، فهؤلاء كانوا أقل تأثراً سلبياً بالأيدولوجية الشيوعية لكاسترو وأكثر ميلاً للتقارب مع بلادهم الأصلية، ولكن يبقي لأوباما معركة شرسة تتمثل في إقناع الكونجرس برفع الحظر تماما عن كوبا. في السابع عشر من ديسمبر الجاري احتفل البابا فرانسوا بمناسبتين: الأولي يوم مولده، والثانية هو اليوم الذي توجت فيه جهود وساطته لإعادة العلاقات بين كوبا وأمريكا بالنجاح، فمنذ انتخابه في مارس 2013، والبابا اللاتيني الأول في تاريخ الفاتيكان (أرجنتيني المولد) كان يتابع الملف الكوبي الأمريكي عن قرب، وكانت رحلات البابا فرانسوا لهافانا امتداداً لرحلات سابقيه في منصبه، البابا يوحنا بولس الثاني الذي زارالعاصمة الكوبية عام 1989، والبابا بنديكت السادس عشر الذي زارها عام 2012 حيث اختاروا جميعاً البراجماتية ولم يرفض أحدهم مطلقاً فكرة التحاور مع النظام الشيوعي. الفاتيكان إضافة لكندا، استضافا محادثات سرية استمرت بين الأمريكيين والكوبيين علي مدار الأشهر الماضية، وكان فحوي تلك المحادثات هي محور لقاء البابا فرانسوا والرئيس أوباما إبان زيارة هذا الأخير للفاتيكان في شهر مارس الماضي، وفي بيان صادر عن الكرسي الرسولي أعرب البابا عن «سعادته الغامرة بقرارا الحكومتين الأمريكية والكوبية عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما» وهو ما يؤكد الدور الذي لعبه الحبر الأعظم في تحقيق التقارب بين هافانا وواشنطن. ذلك النجاح الذي حققه البابا فرانسوا، الذي رحب به الرئيس أوباما، يُعيد الفاتيكان إلي نفس دائرة الضوء التي أحاطت به قبيل نهاية حقبة الحرب الباردة وانهيار الكتلة السوفيتية إبان عهد البابا يوحنا بولس الثاني البولندي الجنسية، ورغم سرية وصمت دبلوماسية الفاتيكان إلا أنها أثبتت غير مرة أنها أحد أكبر وأوسع الشبكات الدبلوماسية في العالم، ولكن من الواضح أن دبلوماسية البابا فرانسوا مختلفة عن نظيره يوحنا بولس الثاني الذي كان دوره السياسي أكثر وضوحاً لا سيما في انهيار الشيوعية بدول أوروبا الشرقية.