يبدو أن الدعوة فى مجتمعنا إلى الخبص أسهل بكثير من الدعوة إلى الرقص. فبرغم ولع كثير من المصريين بالرقص إلا أن صورته النمطية عند معظمهم لا تزال معيبة. أما الخبص فيكاد يكون تقليداً شائعاً برغم الخطاب الوعظى الذى يندد به. وقد أنتجت السينما المصرية قبل ثمانى سنوات فيلماً بعنوان «ما تيجى نرقص» قدم الرقص على أنه الحل الذى وجدت فيه إمرأة المتنفس الذى كانت تبحث عنه للتخفيف عن نفسها من ضغوط الحياة. لكن لأن مجتمعنا يستحى أكثره من الرقص فقد أوجد لنفسه متنفساً بديلاً هو الخبص. والخبص كلمة فصيحة من الفعل الثلاثى (خ ب ص) وتعنى خلط الشيء بالشيء. وفى الممارسة الإنسانية هو الخلط على الكيف بين القصص والأخبار بكل أنوعها، السياسى والدينى والثقافى وغيرها، لتمتزج من خلاله الحقيقة بالخيال والصدق بالزيف، وتلضم أنصاف المعلومات ببعضها البعض لتكون صورة لا تمثل الحقيقة بل كثيراً ما تجافيها وتشوهها. الخبص فيه مبالغة وكذب، وفتنة ونقل كلام عن الغير وسعى للوقيعة بين الناس والوشاية بالكلام فى حق الآخرين. هو متعة لغوية تعرفها الثقافات البيانية بينما يعتبر جريمة فى الثقافات البرهانية. وثقافتنا للأسف بيانية وليست برهانية. لا تميل إلى التحرى من صحة الكلام وإنما تتسرع فى نشره والقفز إلى إستنتاجات وتعميمات خطيرة من خلاله. ثقافة تعشق نقل الكلام. لا تفند بدقة ما تسمعه، بل تتناقل الروايات مرات ومرات ليست كما هى وإنما بإضافة «تحابيش» مثيرة تستقر فى وعى العامة على أنها الخبر اليقين مع أنها لا تزيد عن رواية مخبوصة. والخبص سيء بكل أشكاله، بما فى ذلك الخبص السياسي. وهو آفة لم تسلم منها مرحلة من مراحل الحياة السياسية المصرية. وكان من المأمول لو نجح التحول الديمقراطى مع ثورة يناير أن يتراجع هذا اللون من الخبص. لكن الرياح أتت بما لا تشتهى السفن. عاد الخبص سريعاً للعمل. حتى القوى السياسية التى اتحدت لإسقاط مبارك خبصت على بعضها فدفعت جميعها ثمناً غالياً لذلك. ومع هذا ما زالوا يخبصون، بل واتسعت دائرة الخبص السياسى ليتلذذ بممارسته أفراد عاديون. وجميعهم لا يعرقل فقط بناء حياة سياسية سليمة وإنما ينال من صورة الأبرياء ومن صورة مصر نفسها. ولم تكن الواقعة التى جرت قبل فترة وجيزة مع آلان جريش، رئيس التحرير السابق لصحيفة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية إلا مثالاً واحداً على عودة الخباصين اللباصين إلى هوايتهم. جريش ولد فى مصر فى 1948 ويتكلم اللهجة المصرية كأهلها. التقى بمواطنتين فى أحد مقاهى القاهرة ليتكلم معهما فى الشأن السياسي، الذى هو شأن عام يجوز الحديث عنه فى الحيز العام. فما كان من متبرعة بعد أن ترامى الكلام إلى أذنها إلا أن استدعت لهم الشرطة التى احتجزتهم قرابة ساعتين إلى أن أفرجت عنهم وأعادت للرجل جواز سفره. وحسناً فعلت وزارة الداخلية لما اعتذرت له عن الواقعة. وسيكون أحسن لو أن الوزارة تعاملت مع الخباصين الواشين بقدر من التأني. فالحديث السياسى الخطير الذى ادعت تلك الخباصة أنه سيخرب البلد لم يكن سوى كلاماً عاماً فى مكان عام وسط حضور عام. وقد وصف جريش تلك الخبّاصة بأنها upper class foloul، ومثل عشرات الآلاف من المصريين الذين يحلمون ببلدهم خالياً من الخبص واللبص علق جريش على ظاهرة «المواطن المخبر» بأنها لا تخالف فقط تطلعات ثورة قامت من أجل الحرية بل وتشوه صورة مصر وتعطل نموها سياسياً. وقصة جريش ليست إلا واحدة من حكايات متكررة تعرضها الصحف لمواطنين تعرضوا للمضايقة بسبب كلام قالوه لم يرق للخباص أو لم يتفق مع المهمة التى وهب أذنيه ثم لسانه لأدائها. والخباصون ليسوا سواء. هناك الخباص المتطوع والخباص المكلف. المتطوع يندفع إلى الإبلاغ عن كل شاردة سياسية يسمعها ربما كراهية ًمنه لما أحدثته السياسة من انقسام وفوضي. لكن الخباصين المتطوعين قلة. فأكثر الخباصين مكلفون. إما أن تكلفهم قنوات تليفزيونية رديئة وبرامج أردأ وإعلاميون أردأ وأردأ تحثهم على التلصص على الناس والإبلاغ عنهم إن تكلموا فى السياسة موهمين إياهم بأنهم يؤدون بذلك واجباً وطنياً. أو تكلفهم أحياناً عقليات قديمة فى جهاز الأمن ما زالت تعتقد أن مصر يمكن أن تحكم إلى ما لا نهاية بطريقة العادلى ومبارك وأن السياسة ليست مجالاً من حق الشعب أن يتكلم فى شئونه أو أن يعبر عن مواقفه إزاء تطوراته. هؤلاء الخباصون يحاولون إعادة بناء حاجز الخوف الذى أسقطته ثورة يناير، بل ويريدون تعليته بإرهاب الناس وإشعارهم بأنهم متابعون أينما ذهبوا ومراقبون فى كل ما قالوا حتى لو كان ما يقولونه ليس فيه ما يهدد أو يخيف. نعم إن على الدولة واجب ولها أيضاً حق فى مراقبة المجال العام لكى تقف على ما يدور ويحكى فيه حتى تمنع أى خطر يهدده. لكن ذلك ليس معناه أن تتراخى أو تترك أو تشجع الخباصين الجدد على قفل وقتل المجال العام وإشاعة أجواء الإرهاب الفكرى فى المجتمع. الدولة لو تركت الخباصين الجدد يدفعونها إلى مواجهات مع قطاع الشباب وحده والذى لايزال جريئاً وسيظل جريئاً لأسباب مختلفة إنما تعرض قدراتها للتآكل وشرعيتها للاستنزاف. الخباصون الجدد خطر على شرعية الحكم وصورة البلد. إنهم خباصون ورقاصون. فهم يرقصون على جسد الفضيلة وأجساد أبرياء يشوهونهم، بل وعلى جسد الوطن ذاته. باليقين هناك مجرمون يهددون الوطن. وهؤلاء لا بد من محاربتهم ومعاقبتهم. فما من دولة فى العالم تترك مثل هؤلاء دون أن تجرد وراءهم بصاصين. أما الخباصون فلا يشرف دولة أن تعتمد على كلامهم أو تستمع لوشاياتهم أو أن ترهن تصرفاتها بافتراءاتهم. الخباصون يورطون الدولة ويسيئون لسمعتها ويشوهون صورتها، ويفتحون باباً واسعاً للغضب منها. الخبص السياسى لا يصنع مجتمعاً عفياً. لذلك فإن كل من يقول للناس «ما تيجو نخبص» ويشجعهم على ذلك إعلامياً وأمنياً ويحثهم على التصيد لبعضهم إنما يضر بالوطن ضرراً بالغاً. الخبص السياسى أقصر الطرق لخسائر لا أول لها ولا آخر. لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات