فى هذه اللحظة، وقبل ذهاب الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الصين، فإن مواطنين أو غالبية المصريين يخيم على مزاجهم العام حكمة الانتظار والواقعية، بل يمكن القول إنهم يشاركون الرئيس الصينى شى جين بينج مقولته المهمة «إن الحلم لن يتحول إلى واقع إلا بالعمل الواقعي»، وهذه الواقعية والرهان على الزمن، ولكن مع العمل الدءوب هو خلاصة «التجربة الصينية»، ولكنها لن تتضح إلا بمقولة أخرى للرئيس الصينى فى كتابه الأخير «شى جيان بينج حول الحكم والإدارة»، والتى يقول فيها «تعزيز الإنصاف والعدالة الاجتماعية ضمان لمعيشة الشعب بطمأنينة والعمل بارتياح»، وأحسب أن هذا الإنصاف وتلك العدالة الاجتماعية هما جوهر الاستقرار الحقيقي، والدائم لأى مجتمع حتى تتوافر الظروف الملائمة لأى شعب حتى يطمئن ويعمل بارتياح. ونبقى مع المزاج العام فى مصر، حيث يقول لنا سعيد عكاشة الباحث المشارك بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن «حالة من الخوف الشديد تسود داخل المجتمع المصري، من احتمالات أن يؤدى ابتعاد الجيش عن السياسة والحكم إلى انهيار الدولة وتفككها، كما حدث فى حالات أخرى (العراق، ليبيا)، أو إلى حرب أهلية ممتدة (حالة سوريا)، أو إلى عودة الإسلاميين للحكم بما يقود إلى فوضى وقتال أهلى بشكل حتمي»، ويخلص سعيد عكاشة فى مقالته «خلل بنيوي: معادلة عدم الاستقرار فى مصر» بمطبوعة حالة مصر للمركز الإقليمى للدراسات إلى تحذير مهم، فيقول: «وبغض النظر عن هذه المخاوف، ومدى حجمها الحقيقى لا يمكن للنخب المدنية الرافضة لتدخل الجيش فى السياسة أن تتجاهلها، أو تتعامل معها كما لو كانت مؤامرة من المؤسسة العسكرية ذاتها لتأميم أو عسكرة المجال السياسى برمته، فمثل هذا السلوك من شأنه توسيع الفجوة بينهم وبين الشارع، ويقود الى عكس ما يبغون». وهنا فإن الرئيس السيسى مازال هو «الرقم الأكبر والأصعب» فى المعادلة السياسية المصرية فى اللحظة الراهنة، ليس فقط لمجيئه إلى السلطة بحجم تأييد كبير، بل لاحتفاظه بقدرته على التواصل بين المصريين، والاستمرار فى التمتع بتأييدهم مع اتخاذه إجراءات صعبة ومؤلمة، كما يبدو حتى اللحظة قادرا على قراءة المزاج العام لغالبية الشعب المصري، وأبرز مؤشرات هذا المزاج : الإصلاح لمؤسسات الدولة، لا هدم الدولة، وإعادة البناء من جديد، المهم هو الإنجاز لا الشعارات، مهما كانت براعتها، لماذا؟ لأن الشعب جرب شعارات جوفاء من قبل جماعة الإخوان التى احتالت بشعار «الإسلام هو الحل»، إلا أن غالبية الشعب لم تجد أثرا على أرض الواقع، ولم يتم حل المشكلات، ولم تر أثرا للكفاءة، بل لم تكن هناك قناعة حقيقية بالديمقراطية، وإنما محاولات محمومة لأخونة مفاصل الدولة بأسرع وقت ممكن، الأمر الذى هدد ب«حرب أهلية»، والآن تفجرت موجة إرهابية من جماعة الإخوان وأخواتها الذين التفوا حولها فى أثناء الحكم، ويحاولون الآن تقويض الدولة بعنف وتآمر لا نظير له! إلا أن الرئيس السيسى يدرك أن شعبه عانى من أوضاع صعبة! وأحلام محطمة، ومن هنا فإن ملامح إدارة الرئيس لمصر فى الداخل وعلاماتها فى الخارج تم تلخيصها فى جملة واحدة «الرهان على المصريين وتوسيع البدائل»، فالرجل يدرك أن قوته تكمن فى «الظهير الشعبي»، وأن نجاحه يتوقف على ألا يكون رهينة لفئة أو مجموعة من كبار الرأسماليين، بل العمل بقوة على نسج تحالف عريض حول مشروع «الدولة الوطنية المصرية.. القوية المزدهرة اقتصاديا، والمتسامحة مع من يشاركها طموحها». .. هذا عن الداخل، أما عن الخارج فإنها تبحث عن الاستقرار «صفر مشكلات» مع الجميع حتى مع من أخطأ، كما أنها لا تنتهج «سياسة مغامرة» أو «الانقلاب على التحالفات والصداقات»، بل ترغب فى مزيد من الأصدقاء والحلفاء الاستراتيجيين مثل الصين، ومن قبل روسيا إلى جانب أوروبا والولايات المتحدة، ومصر تدرك أن «خيارها العربي» هو «خيار وجود» لا يمكنها أن تهرب منه أو تلتف حوله أو تستبدله. .. وبهذه الخلفية يذهب الرئيس السيسى إلى بكين قبل مؤتمر الاستثمار الدولى فى مارس، وقبل الانتخابات البرلمانية، وبالطبع يدرك السيسى أن أوراقه جيدة، فالبنك الدولى على لسان هالة بريدى المديرة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تشيد بوضوح بالتزام الحكومة باتخاذ خطوات حساسة سياسيا، ووصفت برنامجها الاقتصادى بأنه «واقعي» وقابل للتحقيق، وتأمل مصر فى أن تقفز بمعدل النمو الى 6%، وأن تجتذب 12 مليار دولار استثمارات مباشرة من خلال المؤتمر الاقتصادي، وأغلب الظن أن هناك أوراقا أخرى تدفع بتغيير الصورة عن مصر، فيرصد ديفيد بلومبرج رئيس مجلس إدارة شركة بلومبرج جرين وهى شركة متخصصة فى أنظمة تخزين الغذاء فى الأسواق الناشئة أن «القيادة الحالية لمصر تعطى الأولوية لسرعة الإنجاز»، ولعل هذا ما يراه المصريون يوميا سواء فى تطوير مطار الغردقة والميناء البحري، أو من قبله فى مشروع قناة السويس الجديدة. .. ويبقى أن موجة جديدة من التحليلات سوف تنفجر بشأن «العلاقة الاستراتيجية الجديدة مع الصين»، وما اذا كانت على حساب أو بديل العلاقة مع واشنطن، ومثلما يقول الخبير الأمريكى ستيفن كوك بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية «بالتأكيد (مصر) ترغب فى أن تكون لديها علاقات مع واشنطن، إلا أن لديهم خيارات»!، وكان كوك يعقب حول ما إذا كانت «العلاقة الخاصة ما بين واشنطن والقاهرة، قد انتهت»، خاصة مع الدعم المالى الكبير من السعودية والإمارات والكويت للقاهرة، وأغلب الظن أن مصر الجديدة بقيادة السيسى تراهن وهى فى الطريق الى الصين على توسيع خياراتها، وليس تقليصها!، هذا هو الدرس لمن يريد أن يعرف! لمزيد من مقالات محمد صابرين