وأنا أقرأ البيان الختامى لمؤتمر الأزهر العالمي، والذى نجح بتوفيق من الله- تعالي- نجاحا لم يشهده مؤتمر من المؤتمرات المماثلة التى عقدت شرقا وغربا والتى يحرص الأزهر على المشاركة فيها بتمثيل رفيع المستوي، أدركت مدى رسوخ المنهج الأزهرى فى التصدى للإرهاب منذ عشرات السنين وأن موقفه لم يتغير يوما، وأن منهجه يتمثل فى الصدع بكلمة الشرع خالصة لوجه الله دون خشية لائم، فتاريخ الأزهر ومشايخه تاج على رأس كل من ينتمى إلى هذه المؤسسة العريقة وأشرف بأن أكون واحدا منهم، عشت فى رحاب الأزهر أكثر من أربعة عقود من الزمان، طالبا وأستاذا بالجامعة ومسئولا قريبا من شيخه وإمامه الأكبر- حفظه الله-، ومن خلال مناهجه التى يزعم بعض الحاقدين أنها تخرج إرهابيين أعددت بحثى لنيل درجة الدكتوراه، وأذكرها اليوم كمثال لأزهرى يعتز بأزهره ويفخر بأنه أحد أبنائه، لنرى من خلالها إجابة عملية وبرهانا على صدق ما أقول: ففى عام 1992م كان الإرهاب أشد سطوة من أيامنا على يد جماعات لا أراها إلا جماعة واحدة ذات مسميات مختلفة، وهى جماعة التكفير والهجرة، والجهاد، والجماعة الإسلامية، ونحوها من جماعات تسقى بماء يشرب منه الإخوان مع القاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس، وغير ذلك من جماعات العنف والإرهاب، وكانت تلك الجماعات تستهدف كل شيء حتى حافلات المدارس والسائحين ، وكنت أوقن من خلال ما تعلمته فى الأزهر أن إسلامنا لا يقر ذلك، فهديت إلى أن يكون موضوع رسالتى للدكتوراه بعنوان: «عصمة الدم والمال فى الفقه الإسلامي، وقد ناقشت فى رسالتى شبه وافتراءات هذه الجماعات الإرهابية ورددت عليها مفندا ومبطلا مزاعمهم، قلت فى مقدمتها مبينا سبب اختيار هذا الموضوع لرسالة الدكتوراه ما نصه: (.... ومن القضايا ذات البال التى ينبغى أن ترد إلى كتاب الله وسنة رسوله، ما ابتلى به المسلمون من فئة ضالة قصر فهمها لكتاب الله وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-فاستباحت دماء المسلمين وأموالهم، كاستباحتها لدماء الكافرين وأموالهم،،فروعت الآمنين، ولم تفرق فى عدوانها بين الأطفال والشباب والشيوخ والنساء، كل ذلك ينسب للدين والدين منه براء.....ص 8) وكانت النتيجة الأولى المذكورة فى نتائجها فى الخاتمة: (اهتمام الشريعة الإسلامية، وغيرها من الشرائع البالغ بصيانة الدماء والأموال بصفة عامة، والمسلمين خاصة، وأنه لا يجوز التعرض للنفوس الآمنة بالترويع أو القتل، وكذا لا يجوز الاعتداء على المال المعصوم بالإتلاف أو الغصب أو غير ذلك من أنواع الاعتداء .ص:472) وفى هذه الرسالة أثبت أن الإسلام بريء من الإرهاب وفاعليه وأن المعتدى على دماء أو أموال الناس من غير نظر إلى عقائدهم مفسد فى الأرض يعاقب بأشد العقوبات إن قدر عليه ،فإن كانوا جماعة ولم يقدر عليهم إلا بالقتال قوتلوا، كما أثبت حرمة دماء وأموال غير المسلمين من مواطنى الدول الإسلامية، ومشروعية السياحة، ووجوب تأمين السائحين،وتحريم استهدافهم كما كان يفعل هؤلاء، كما أثبت مشروعية أنظمة الحكم المعاصرة بكافة أنواعها، ملكية كانت أو رئاسية أو غيرهما من الأنظمة التى يتراضى عليها الناس، وأنه يثبت لمن يتولاها وجوب الطاعة ما لم يخرج عن شرع الله، أو يخل بالعقد الذى تعاقد به مع المحكومين، والرسالة بمكتبة جامعة الأزهر وغيرها، وقد طبعت مرتين، وهى على شبكة الانترنت كاملة وبالمجان، وبنظرة فاحصة فى هذه الرسالة التى نوقشت قبل عشرين سنة، تراها كأنها تتحدث عن الإرهابيين الذين تحدث عنهم مؤتمرنا، مما يدل على أن موقف الأزهر قديما وحديثا ثابت راسخ، لأنه ينطلق من صحيح الإسلام الذى يناسب كل زمان ومكان، فالإرهاب هو الإرهاب فى أى زمان ومكان وجد،وأن أى أزهرى يكتب أو يتحدث عن الإرهاب سيتحدث عنه بنفس اللسان،وينتهى إلى ذات النتائج، ومع هذا الموقف الثابت والمنهج الراسخ الواضح، فإن الأسلوب يتطور ويتغير وكذا الوسائل لتواكب حركة العصور وتطورها، حتى لا يخرج علينا بعض المتفلسفين واصفين إيانا بالجمود، وبيان حكم الشرع فى الإرهاب والإرهابيين لم يكن هو مقصود مؤتمر الأزهر الأخير، فالرأى فيه واضح لا مراء فيه منذ عشرات السنين، وإنما الهدف كان بيان أن هذا هو رأى كل المذاهب والطوائف، وأن جميع الديانات السماوية بريئة من صانعيه وداعميه، وتحذير الواقفين خلفه لاسيما فى الغرب وأمريكا من ارتداده عليهم نارا تحرق الأخضر قبل اليابس، ووضع هذه الجماعات فى خندقها السياسى الصحيح بعد رفع أى غطاء دينى عنها، وتحذير البسطاء من الانخداع بشعاراتهم وراياتهم التى يرفعونها، وكشف تزييفهم لمصطلحات إسلامية زيفوها وألبسوها لباسا غير لباسها، وأعتقد أن الرسالة وصلت بوضوح، وستثمر بعد وقت قريب حين تتحول إلى برامج عمل على أرض الواقع تنمى دور الأزهر النشط فى هذا المجال منذ عشرات السنين، بعد إدخال المستحدثات فى خطاب وعاظه، ومعلميه، وهو ما شرع فيه شيخ الأزهر على الفور فى لقائه بقيادات الدعوة والتعليم فى الأزهر الشريف بعد يوم واحد من مؤتمر الأزهر العالمى لمواجهة التطرف والإرهاب. لمزيد من مقالات د. عباس شومان