وصلتنى ردود أفعال إيجابية كثيرة ومشجعة من أصدقاء وكتاب وقامات ثقافية محترمة حول المقال الذي نشرته في هذا المكان المرموق من الأهرام منذ أسابيع قليلة حول التجربة الصينية في الصناعات الثقافية الإبداعية ومن ثم وجدت لزامًا علي أن استكمل ما بدأته في عدد آخر من المقالات حول التجارب الخاصة بدول أخرى عسى أن يكون فيها بعض النفع لمصرنا العزيزة وأمتنا العربية. ونستعرض الآن بعض الملامح المميزة للتجربة البريطانية في هذا الموضوع. في عام 2013 أطلق مجلس الفنون في إنجلترا Arts Council England استراتيجية جديدة أطلق عليها اسم «الفن العظيم والثقافة العظيمة لكل إنسان» Great art and culture for everyone قال خلالها إن تحقيق الهدف الخاص بتوفير الفن العظيم بالنسبة لكل إنسان، كذلك المعرفة والفهم الثقافيين إنما يهدف إلى تركيز عملنا وتكثيفه خلال السنوات العشر القادمة وتشجيع الأهداف المشتركة والمشاركة عبر الفنون. إن ذلك يقوم على أساس المنطق الخاص أو الرؤية الخاصة «باستثمارنا الموجه للفنون والمتاحف، كما أنه سوف يوجه قراراتنا التالية (المستقبلية) المتعلقة بالتمويل وكذلك خطط تطويرنا للمكتبات. لقد تم إعداد هذه الوثائق من خلال فنانين ومؤسسات فنية وكذلك الجمهور العام والعديد ممن شجعونا أو شاركونا». وقد استخلص تقرير 2013 أن للفنون قوتها خاصة عندما تستخدم بكفاءة في تسيير التفاعل الاجتماعي، وكذلك دفع المتلقين للرعاية الاجتماعية المتعلقة بالفنون نحو المسارات الإبداعية المهمة في المستقبل، وأن الفنون مثلاً، كما قال التقرير، تعمل على خفض الشعور بالوحدة والعزلة وتخفف من الاكتئاب والقلق، وأنها تعزز الإبداع والتكامل الاجتماعي وتتيح الفرصة لحدوث عمليات التواصل غير اللفظي والتفاهم وتبعث على المرح والسعادة. وإن هناك فوائد أخرى للفنون منها تأثيرها الإيجابي من حيث التحسن في المعرفة والمعلومات والاتزان البدني، والارتفاع في التقدير للذات واحترامها، والتفاعل الأفضل مع الآخرين والسعي من أجل قيم إيجابية ومستقبلية وإبداعية ترتبط برفاهية الإنسان وسعادته. ومن دراسات على المستوى القومي وُجِد تأثير واضح للفنون في المجال أو الخير العام للأفراد والمجتمع من حيث الشعور بحسن الحال. وفي دراسات أخرى حول معنى الجمال بالنسبة للأفراد والأماكن والتجمعات والمجتمع وجد أن الجمال يعد خبرة إيجابية ترتبط بقوة بحدوث السعادة والشعور بالتحسن في الشعور العام في حياة الأفراد وأن هذا الاقتراب من الجمال يتم الشعور به على أنه يسهم في الرفاهية العامة والمجتمع الأفضل. تعرف إدارة الثقافة والإعلام والرياضة في المملكة المتحدة الصناعات الإبداعية بأنها: «تلك الصناعات التي تمتد بجذورها في الإبداع والمهارات والمواهب الفردية التي تتضمن إمكانيات واحتمالات كبيرة بالنسبة للثروات وخلق فرص العمل والوظائف من خلال التوليد والتطوير والاستغلال للملكية الفكرية. وفي عام 2006 كانت إدارة الثقافة والإعلام والرياضة في المملكة المتحدة قد حددت اثني عشر قطاعًا إبداعيًّا هي: 1- الإعلان 2- العمارة 3- الفنون التشكيلية وسوق العاديات والتحف 4-الحرف الشعبية 5- التصميم وأيضًا التصميم الخاص بوسائل الاتصال 6- تصميم الأزياء 7- السينما والفيديو والتصوير الفوتوغرافي 8- البرمجيات وألعاب الكومبيوتر والنشر الإلكتروني 9- الموسيقى والفنون البصرية والأدائية 10-النشر 11- التليفزيون 12- الراديو. ويلاحظ في هذا التصنيف أنه يدمج بين صناعات إبداعية يمكن أن تكون صناعات قائمة بذاتها، منها مثلاً القطاع السابع الذي يشتمل على السينما والفيديو والتصوير الفوتوغرافي، كذلك القطاع التاسع الذي يدمج بين الموسيقى والفنون البصرية وفنون الأداء. إذ يمكن النظر إلى كل قسم من هذه الأقسام على أنها تمثل قطاعًا قائمًا بذاته؛ بل إن بعض الأقسام مثل فنون الأداء قد تشتمل على المسرح والسينما وفنون السيرك وغيرها من الأقسام المهمة في ذاتها، والأمر نفسه بالنسبة للموسيقى والتصوير الفوتوغرافي وغيرها. وينادي البعض أيضًا بإضافة مجالات هندسية عدة إلى هذا التصنيف، ربما بسبب نظر البعض إلى المهندسين على أنهم يشغلون وظائف «غير إبداعية» في مؤسساتهم، بينما الأمر في حقيقته أن فنونًا عدة - منها فنون الأداء وعروض المسرح والموسيقى والتصوير السينمائي وغير ذلك - تحتاج إلى مهندسين مهرة مبدعين يشاركون في الأنشطة الخاصة بالمشروعات والعمليات والصيانة وتحليل المخاطر والأهداف وكذلك الابتكار والاختراع في هذه المجالات أو القطاعات من الصناعات الإبداعية وفي غيرها أيضًا. وعلى الرغم من تبني العديد من الدول هذا التصنيف إلا أنها قامت بتعديله أيضًا في ضوء ظروفها وحاجاتها، كما أن عددًا من العاملين في المجال يؤكدون أيضًا أهمية الطبيعة البينية والتفاعلية بين هذه القطاعات وبعضها البعض؛ مثلاً تحتاج السينما إلى فنون الإعلان والأزياء، كذلك إلى البرمجيات وإلى الفنون البصرية والأدائية والموسيقى أيضًا، كذلك يحتاج المسرح الحديث - خاصة مسرح الصورة - إلى تقنيات السينما والموسيقى المتطورة والإعلانات والأزياء والتصميم وغيرها. تقدم الصناعات الثقافية والإبداعية دخلاً قوميًّا يزيد أربع مرات عن الدخل الذي تقدمه الزراعة وصناعات صيد الأسماك وأعمال الغابات، ويعمل في هذه الصناعات حوالي 4-6% من قوة العمل في بريطانيا، ويقدم مجال التصميم والنشر والتليفزيون والراديو حوالي 75% من الدخل الخاص بهذه الصناعات، ويعمل في هذه المجالات الأربعة أيضًا 50% من العاملين في مجال الصناعات الثقافية والإبداعية. لقد وفر مجال الصناعات الثقافية والإبداعية في المملكة المتحدة حوالي مليون وظيفة، كما جلب هذا المجال حوالي 12.5 بليون جنيه إسترليني للاقتصاد الخاص بهذه الدولة. وقد وصل دخل سوق العمل والتجارة في صناعة الفنون والثقافة في المملكة المتحدة عام 2011 إلى 12.4 بليون جنيه إسترليني، وهي - على الرغم من ذلك - قيمة أقل بمقدار 3.5% من الذروة التي وصلت إليها عام 2008، وقد أسهمت الأنشطة الإبداعية الخاصة بالفنون والثقافة في مجال نشر الكتب والفنون الأدائية والإبداع الفني التشكيلي خاصة بأكبر قدر في هذا المتراكم أو الدخول من هذه الصناعة، بحوالي 5.9 بليون جنيه إسترليني من القيمة المضافة إلى الاقتصاد البريطاني، وقد عمل في هذه الصناعة في بريطانيا 110.600 (مائة وعشرة آلاف شخص وستمائة) بدوام كامل في المملكة المتحدة و99.500 حوالي مائة ألف في إنجلترا خلال الفترة من 2008-2011. وإنه في مقابل كل جنيه إسترليني تدفعه صناعة الفنون والثقافة في المملكة المتحدة يدخل 2.1 جنيه إسترليني في الاقتصاد الأوسع للدولة من خلال تأثيرات عدة أخرى وغير مباشرة. في عام 2011 زاد عدد من زاروا بريطانيا بنسبة 10 مليون تقريبًا، وقاموا بالمشاركة في تفاعلات (المشاهدة ... إلخ) خاصة في الفنون والثقافة، ويمثل هذا حوالي 32% ممن قاموا بزيارة المملكة المتحدة و42% من الأماكن التي قام هؤلاء السياح بزيارتها. وفي ضوء المؤثرات العامة للثقافة تعد المملكة المتحدة الرابعة، وذلك في ضوء النظر إليها على أنها من أفضل الأمم التي تحتوي على ثقافة ممتعة ومثيرة ومعاصرة (مثل: الموسيقى والأفلام والفنون التشكيلية والأدب). وهناك خمس طرائق أساسية يمكن من خلالها أن تقوم الثقافة والفنون بدفع الاقتصاديات المحلية إلى الأمام؛ وهي: 1- جذب الزوار. 2- خلق الوظائف. 3- تطوير المهارات. 4- الجذب والمحافظة على الصناعات والأعمال في الأماكن المحلية 5- تطوير المواهب والقدرات الإبداعية.