هل للحنين فصل مدلل هو فصل الشتاء ؟! كما ذكر الشاعر الفلسطينى محمود درويش. يتساءل المرء وبالطبع لا يكتفي بهذا السؤال ويستمر في حيرته وبحثه وطرحه لأسئلة أخرى لعل معها تهدأ النفس ويسعد العقل. فهو يريد أيضا أن يعرف كيف ندلل الحنين أو كيف يدللنا الحنين؟ ونحن في حياتنا اليومية ومعاركنا الكبيرة والصغيرة نبحث عن هذا الحنين المدلل والملاذ الآمن الذي يأخذنا بعيدا عن الواقع الذي نعيشه أو نعايشه. نعم الحنين فعل وفاعل ومبتدأ وخبر .. وفعل مضارع وفعل ماض. والأهم هو الحبيب والمحبوبة أو الحبيبة والمحبوب. ومثلما لا يجب أن ينظر الي الحنين كمجرد هروب .. فلا يمكن تعريفه بأنه ذكرى .. واذا كان قد درسوك وعلموك وربوك وروضوك و خدعوك بأنه مجرد ذكرى .. فانه ولا مؤاخدة الحلم أيضا الذي تسعى أنت لمطاردته والامساك به مهما طال الزمن ومهما بعدت المسافات! وفي مثل هذه الأيام من كل ديسمبر يأخذنا الحنين الى كتابات نجيب محفوظ وحضوره في حياتنا وخيالنا واشتياقنا ل»زمن جميل» و»القاهرة التي عشقناها» و»أفلام الأبيض والأسود التي لم نمل من تكرار مشاهدتها». فيوم 11 ديسمبر هو «عيد ميلاده» ومع كلماته كان ميلادنا من جديد ونحن نكتشف آفافا جديدة بداخلنا وحولنا بين سطور الكتب. وألجأ من جديد هنا الى عبارات من الحوار الذي يدور بين أبطال روايته»الحرافيش» وقد رصد هذه العبارات بحنكة ومحبة ومهارة «صائد اللؤلؤ» الناقد رجاء النقاش.. وأقرأ «منيحمل الماضي تتعثر خطاه»، «النجاح لا يوفر دائما السعادة «، « الحزن كالوباء يوجب العزلة»، «لا توجد الكراهية الا بين الاخوة والأخوات»، «ألا ترى قاتلا يمرح وبريئا يتعذب في العربة؟»، «من الهرب ما هو مقاومة»، «لن نمل انتظار العدل»، «لا قيمة لبريق في هذه الحياة بالقياس الى طهارة النفس وحب الناس وسماع الأناشيد» والحنين كفعل مضارع وحاضر في حياتنا يطبقه ويسعى اليه هذه الأيام ومنذ فترة مضت مجموعات»عشاق كتب» في أكثر من مكان بأمريكا. اذ الهدف ليس القراءة فقط بل الحنين الى زمن القراءة الجميل عندما كان يأسرهم الكتاب ويسحبهم من هذه الدنيا ويطير بهم في عالم الخيال والأحلام. هذه المجموعات لا تريد أن يتزاحم اليها الأفراد وتعلو فيها الأصوات. الحنين الى ما كان مبعثه أن تتمهل بشكل عام وأن تبطئ في مشيك وأكلك وحديثك وأقكارك وأحلامك وقراءتك للكتاب أن تعطي لنفسك تلك المسافة الزمنية التي تضمن لك فرصة التمهل والتأمل و»مضغ الخاطرة الواردة في الكتاب جيدا قبل بلعها» ويشار في هذا الصدد الى أنك مثلما لا تريد بل تتفادى حدوث عسر الهضم لديك فانك لا تريد أيضا وتبتعد عن حدوث عسر التفكير لديك. فالمسألة اختيار ثم ارادة على التمسك بهذا الاختيار وأخيرا الأمر الأهم وهو الاستعداد للاستمرار في هذا التمسك وهذا الاختيار مهما كان الثمن من وقتك ومن جهدك ومن أموالك!! وقد أهتمت أكثر من مجلة وأكثر من صحيفة (ومنها وول ستريت جورنال مؤخرا) بهذه الظاهرة وكيف أن فكرة نادي الكتاب أو نادي القراءة بدأت تتحول بل تنصب على مراسم القراءة وطقوسها. هذه العلاقة الحميمة التي تنشأ وتتواصل وتستمر بين القارئ «عاشق الكتب». فما نراه ونعيشه هو احياء هذه الطقوس الساحرة والممتعة ومعايشتها من جديد. فالمرجو والمراد ليس فقط مضمون الكتاب بل لحظة الهدوء ولحظات الونس و»مجالسة الصديق/الكتاب» وأيضا موقف الابتعاد عن اللهث وراء المعرفة والتلهف لالتقاط المعلومات والانسياق الى سباق العقول. وقد كشفت دراسة علمية نشرت في مجلة «العلم» أن قراءة الأعمال الأدبية والروايات تساعد الناس على فهم وتقبل مواقف الآخرين وآرائهم مما يساعد على اقامة العلاقات الانسانية والحفاظ عليها. ولا شك أن القراءة منذ الصغر «كالنقش على الحجر» وهذا ما نلمسه في التفوق الاكاديمي الذي يظهر لدى الطلبة الأكثر قراءة وتحديدا هؤلاء الذين بدأت معهم عادة القراءة مبكرا .. منذ مرحلة الطفولة ومنذ ارتباطهم بالكتاب واعتيادهم على القراءة. ان القراءة بتمهل لها فوائد عديدة يتحدث عنها عشاقها عن قناعة قائلين:»انها تحسن قدرتنا على التركيز وتخفض من درجات التوتر لدينا بالاضافة الى أنها (أى القراءة بتمهل وتأني) تعمق قدراتنا في التفكير والاستماع والتركيز .. ومن ثم استمتاعنا بكل هذه القدرات». ولا شك أن الخطوات السابقة كلها تهتم بالكيف أكثر من اهتمامها بالكم .. وبالكيفية التي تمارس بها أنت هذه الخطوات في القراءة المتأنية خاصة أن المأمول والمرجو ليس هو الانجاز أى قراءة الكتاب بل الاستمتاع بالفعل نفسه وهذا ينعكس بكل تأكيد على احتضانك للكتاب ومضمونه واحتفاءك بنفسك أنت ومؤلف الكتاب ومجموعة المعاني الواردة بين دفتي الكتاب. وفي كتابه «حضرة الغياب» يكتب محمود درويش:»الحنين مسامرة الغائب للغائب، والتفات البعيد الى البعيد. الحنين عطش النبع الى حاملات الجرار، والعكس أيضا صحيح» ويقول أيضا:»الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب لأنه يكذب يصدق. كذب الحنين مهنة، والحنين شاعر محبط يعيد كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات. وعجوز ما زال يحبو لأنه نسى حركة الزمن وتحاشى النظر في المرآة» ويذكر درويش:».. ولكن أحدا لا يحن الى وجع أو هلع وجنازة. الحنين هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد وترميم شباك سقط دون أن يصل سقوطه الى الشارع» .. «هكذا يولد الحنين من كل حادثة جميلة، ولا يولد من جرح. فليس الحنين ذكرى، بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة».. وأخيرا ينبهنا درويش بأن»الحنين وجع لا يحن الى وجع. هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم من أعالي جبل بعيد، وجع البحث عن فرح سابق، لكنه وجع من نوع صحي، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل .. وعاطفيون» وبما أننا آمننا بأن الحنين هو ما ينتقى من متحف الذاكرة حتى لو تم وصفنا «بأننا مرضى بالأمل وعاطفيون» فاننا نلجأ أيضا الى كتابات د سعيد عبده وخاصة تلك التي جاءت تحت عنوان «خدعوك فقالوا». فهذا التتبيه أو التحذير وهذا المفهوم وهذه المعالجة أو المواجهة من جانب سعيد عبده نحن في أمس الحاجة اليها اليوم بعد أن تزايدات الأكاذيب والأساطير والاشاعات عبر وسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي وألاعيب «التويتات» و»الهاشتاجات» و»الفيسبوك» الى آخره. د سعيد عبده الطبيب الأديب كما وصفه عملاق الصحافة مصطفى أمين «كان من أعظم الكتاب والشعراء الذين عرفتهم في حياتي.. ومن أحسن من كتبوا المقال السياسي». والدكتور عبده كان من مواليد عام 1901 في قرية كفر أبو ناصر مركز دكرنس بالدقهلية وقد رحل عام 1983. «خدعوك فقالوا» كان لمواجهة ما يقال ويتردد عن الصحة والمرض تحديدا. أما الرجوع أو اللجؤ للمفهوم ذاته يجب أن يشمل الكثير من حياتنا بعد أن كثرت الأمراض والعلل .. وما يتردد حولها. وكتابات سعيد عبده بشكل عام في حاجة الى تجميعها ونشرها ودراستها والاستفادة منها. عبده يكتب «لقد خدعنا أولئك الذين قالوا لنا أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه الا المرضى! .. ان الصحة تاج حقيقة، ولكنه تاج يشعر به صاحبه كفاية، وعافية، وقوة،ووفرة انتاج، فان لم يره على راسه، فليبحث عنه أين ضاع، فذلك خير له من أن يبحث عنه على رءوس الناس» وهو يتعرض للمفهوم المنتشر «أن ختان البنات عاصم لها من الشهوات» يكتب منذ عشرات السنين ما يجب قوله الآن أيضا ونحن في نهاية عتك 2014 «عادة أثيمة مجرمة لا تخدم غرضا نافعا، ولا تعصم من شر آت، وقصاراها أن تحرم المرأة في مستقبل حياتها من المتعة بنعمة من نعم الله، حرمانا يتناسب مع القدر الذي تتحيفه منها مدية البلانة أو سكين الحلاق. وأن العلاقة وثيقة بين هذه العادة الوحشية الآثمة وبين كثير من حالات اضطرابات الحياة الزوجية، وانتقاض الأسر بالطلاق وانتشار المخدرات» ويضيف»والمرأة التي لا يكون لها عاصم من خلقها وتربيتها وكرامتها على نفسها، هيهات أن يكون لها عاصم من هذا السياج المفروض. ان ختان البنات وحشية وظلم وبطش وطغيان لا يقره عقل ولا طب ولا دين.. انه منكر، ان لم يستطع صاحب الرسالة في مثل حالته الخاصة أن يغيره بيده، فليغيره بلسانه، فان لم يستطع فليغيره بقلبه، وهذا أضعف الايمان». ................ وبالتأكيد لا أحد منا يريد أن يعيش خدعة أو يتعايش معها أو أن يخدم الى الأبد خدعة «شربها وأكلها». وهذه الخدعة أو تلك الخديعة (طالما كشف عنها النقاب) غير مقبولة بل مرفوضة مهما قيل عن سحرها وجمالها وصدقها «وسرها الباتع»في جذب الانتباه ولفت الأنظار وكسب الاهتمام. ومن ارتضى بالخدعة قولا وفعلا .. وسلوكا وتعاملا مع البشر أيما كان وأينما كان .. فذنبه على جنبه وبالتالي عليه أن يتحمل تبعاته ويدفع الثمن كخادع أو مخدوع أينما ذهب في كل جوانب الحياة.. وما بعد الحياة أيضا!! وفي كلالأحوال الصراحة راحة !