حين فقد الحكم كفاءته وعدالته، وكانتا رافعة أول حضارة فى التاريخ، وحين أهدر الفراعنة نظام ماعت، أى العدل والحق والصدق، تفجرت الثورة الاجتماعية الأولى فى التاريخ، وسقطت الدولة القديمة وتفككت، فحلت النكبة التاريخية الأولى بمصر فى عصر الاقطاع. ومع آلام النكبة بدأ أول عصر زالت فيه الأوهام، وصار الحكماء المصريون على علم بالفرق الشاسع بين المثل العليا الموروثة للأخلاق العظيمة، وبين الانحطاط الأخلاقى المخيف الظاهر فى المجتمع؛ كما سجل بريستد فى كتابه البحثى الرائد والفريد: فجر الضمير. والأمر أنه مع انهيار النظام كان انفلات الأخلاق، فاجتهد مفكرون اجتماعيون فى البحث عن المثل العليا للأخلاق، وتوصلوا لتصورات سامية ونبيلة، أوجزت فى مقالى السابق مثالين لها فى حِكَم بتاح حتب ونصائح الى مريكارع، التى تمدنا بأقدم نصوص فى العالم بأسره للتعبير عن السلوك المستقيم الواجب للحكام. ومن جهة أخري، أخذ مفكرون اجتماعيون آخرون يظهرون اهتماما كبيرا بعواقب الانحطاط الخلقي، وجاءت كتاباتهم مشبعة بروح التشاؤم فى أول عصر زالت فيه الأوهام عن المجتمع. وقد عبر عن تأملاته المحزنة عن المجتمع كاهن من كهنة عين شمس يدعى حِع خِبر رَع سُنِب كان يعيش وقتئذٍ، حين وصل الإنسان إلى عصر استيقظ فيه القوم لأول مرة فى تاريخ البشر، فشعروا بما أصاب المجتمع من انحطاط خُلُقي. فنجد الكاهن، يقول: إن العدالة قد نبذت، وأخذ الظالم مكانة رفيعة، وصارت البلاد فى هم، وعم الحزن كل مكان، وصارت المدن والأقاليم فى عويل، وصار كل الناس يرزحون تحت عبء الظلم، وانتهى أجل الاحترام.. تقع المصائب اليوم، ومصائب الغد لم تأتِ بعد، وكل الناس لاهون عن ذلك، مع أن كل البلاد فى اضطراب عظيم. وليس ثمة إنسان خال من شر، والقلوب بالحزن مفعمة. والآمر والمأمور صارا سواسية، ويستيقظ الناس على الشر صباح كل يوم لكن القلوب لا تنبذه. فلا يوجد إنسان عاقل يدرك، ولا إنسان يدفعه الغضب للكلام، والناس تستيقظ فى الصباح كل يوم لتتألم، والرجل الفقير ليس له حول ولا قوة لينجو ممن هو أشد منه بأساً!! وفى المقابل وجِد مفكرون يمنون أنفسهم بدنو الأيام السعيدة فى المستقبل القريب، وذلك بالرغم مما يعرفونه عن فساد المجتمع، وما ترتب على سوء الحكم فى البلاد من نتائج وخيمة. ولما كان تدهور البلاد الإدارى له دخل عظيم فى وقوع تلك النكبة، اعتقد بعض المتفائلين أن قيام حكومة أحسن حالاً مما هم فيه خليق بأن يعيد النظام المندثر، ويعلن قدوم يوم أكثر إشراقاً، فهلموا إلى حكومة حسنة وليخسأ الفساد! وفى الجواب عن السؤال: كيف يمكن الوصول إلى حكومة أحسن حالاً مما كان؟ كان بعض المفكرين مقتنعًا بإمكان ولوج عصر جديد على أساس جيل من الموظفين الأمناء العادلين، ورأى آخرون أن تحقيق ذلك يتأتى على يد ملك عادل مخلص مجدد ينقذ المجتمع مما فيه. وفى ذلك العصر الإقطاعي، حين تقوضت السلطة المركزية، عُبِّر عن الحالمين بموظفين عادلين مؤلف قصة الفلاح الفصيح، وعبرتها الواضحة: إن مفتاح طريق الحق بأيدى الطبقة الحاكمة؛ فإذا أخفقت فى اتباعه ففى أى مكان آخر يمكن الحصول عليه؟ وكان المرجو من طبقة الموظفين أن يوازنوا بين الحق والباطل، ثم يفصلوا بقرار عادل؛ كالموازين الدقيقة التى لا تخطئ. ويذكِّر الفلاحُ مدير البيت العظيم بظهوره أمام حساب الموازين التى لا تتحيز؛ فيقول له: احذر لأن يوم الآخرة يقترب. وقد وجدت الموازين فى ذلك المقال لأول مرة فى تاريخ الأخلاق، وبقيت صورتها منصوبة فى يد إلهة العدالة العمياء رمزاً لذلك إلى يومنا هذا!! وفى أعظم عبارات فاه بها الفلاح فى ذلك المقال العظيم، قوله: أقم العدل لرب العدل؛ فالعدالة أبدية، تنزل مع من يقيمها إلى القبر .. واسمه لا يمحى من الأرض بل يذكر بسبب عدله!! وعُبِّر عن الحالمين بحاكم عادل الحكيم إبور، الذى ألف مقالاً لم يقتصر فيه على اتهام أهل عصره بقسوة فحسب، بل ضمنه أيضاً وصايا إيجابية تتطلع الى نهضة يتجدد بها المجتمع، بل ذهب به الأمل إلى ترقب عصر ذهبى يأتى به الإصلاح المنشود. ويلقى الحكيم إبور اتهاما طويلا مفعما بالغضب عن حالة عصره؛ فمع سوء النظام والثورة الداخلية والفتنة الضاربة أطنابها: آل كل شيء إلى الفوضي، ووقفت حركة الحكومة تقريباً، وصارت الناس تدوس قوانين العدل بالأقدام، وعجزت البلاد عن صد غزوات الآسيويين!! ووقف سيل الحركة الاقتصادية: فكل أصحاب الحرف لا يقومون بأى عمل، ومن لم يحرث الأرض يملأ أهراءه، والحروب الداخلية لا تأتى بضريبة، وبيت المال لا دخل له، وأعداء البلاد يفقرونها، والتجارة الخارجية تنحط، فأصبح القوم لا يقلعون بسفنهم، وأصبحت الأخشاب لا ترد!! وصارت العدالة موجودة اسما، وما يلقاه الناس حينما يلتجئون إليها هو العسف، ومات السرور ولم نعد نتذوقه، ولا يوجد إلا الأنين الممزوج بالحسرات!! ثم يؤنَّبَ الحكيم نفسه قائلا: ليتنى رفعت صوتى فى ذلك الوقت، فالويل لى لأن البؤس عم فى هذا الزمان. ويخلص بريستد- وبحق- الى أن الانحطاط الخلقى كان له شأن فى ذلك الخراب الشامل الذى حاق بمصر، ويبرز فى نهاية مقال الحكيم إبور نجد أهم فقرة فيه، يراها بريستد- وبحق أيضا- من أروع ما دون فى كل الأدب المصرى القديم، إذ يتطلع الحكيم فيها إلى المستقبل، متنبئا بإعادة البلاد إلى سيرتها الأولي؛ ويرى فى الحاكم الأمثل الذى يتوق لقدومه: أنه راعى كل الناس، ولا يحمل فى قلبه شراً. ومن نفس العصر يجول فى ذهن حكيم آخر شخصية الملك المنتظر، الذى سيكون فاتحة للعصر الجديد المنشود، الذى جسدته الدولة الوسطي. وهو ما يستحق تناولا آخر. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم