فى اليوم التالى لانتخاب رئيس مصر القادم عليه أن يثبت جدارته بقيادة الأمة المصرية. ولن تكون هذه الجدارة بغير أن يدرك قدر أمة أبدعت الحضارة واكتشفت الضمير، ويستوعب معنى ثورتيها فى 25 يناير و30 يونيو، ويقتلع جذور الفاشية التكفيرية والإرهابية، ويحترم حقوق كل المصريين، ويقود تصنيع مصر لاقتلاع جذور التخلف والتبعية والفقر والعوز. أدعو رئيس مصر القادم لأن يبدأ عهده بقراءة واستيعاب كتاب فجر الضمير لعالم المصريات الرائد جيمس هنرى بريستيد، وهو (خير كتاب أخرج للناس فى العصر الحديث)، كما وصفه سليم حسن، مؤلف موسوعة مصر القديمة، والقائل- بتواضع العلماء- إننى ترجمته لأنه (لو رزقنى الله علم مؤلفه وخبرته بدراسة الشرق عامة ومصر خاصةً لما كان فى وسعى أن أدون خيراً من هذا الكتاب). وبين ما سجله بريستد بموضوعية قاهرة للهازئين بقدر مصر والمصريين: إن مصر كانت أول مسرح اجتماعى خرج فيه الإنسان منتصراً بعد كفاح طويل مع الطبيعة، وأن ظهور الحضارة فى مصر كان تطوراً اجتماعياً أشرق لأول مرة على كرتنا الأرضية، مقدماً أول برهان على خروج الإنسان من الوحشية.. وكان المصريون، فى عصر ما قبل التاريخ، أقدم مجتمع عظيم على الأرض استطاع أن يضمن لنفسه غذاءً ثابتاً باستزراع النبات واستئناس الحيوان، وبتغلبهم على المعادن واختراعهم أقدم نظام كتابى سيطروا على طريق التقدم الطويل نحو الحضارة. ويضيف بريستد أنه لم يكن لصيادى عصر ما قبل التاريخ فى مصر أجداد متحضرون يرثون منهم أي حضارة، والذى يعرف قصة تحولهم.. إلى ملوك ورجال سياسة وعمارة ومهندسين وصناع وحكماء اجتماعيين فى جماعة منظمة عظيمة؛ مشيدين العجائب على ضفاف نيل مصر فى وقت كانت أوروبا لا تزال تعيش فى همجية العصر الحجرى.. يعرف قصة ظهور أول حضارة على وجه الأرض؛ تحمل فى ثناياها قيما أخلاقية ذات بال! حين ظهرت أقدم فكرة عن النظام الأخلاقى عبرت عنه كلمة مصرية قديمة واحدة جامعة، حوت كل معانى السمو والرقى فى الحياة الإنسانية، هى ماعت؛ أى الحق أو العدالة أو الصدق! وكان الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون من أرقى مظاهر الحضارة المصرية. ويعد الكشف عن الأخلاق فى مصر أسمى عمل تم على يد الإنسان، من بين كل الفتوح التى جعلت نهوضه فى حيز الإمكان؛ حيث صار الضمير قوة اجتماعية ذات تأثير عظيم فى الحياة الانسانية لأول مرة فى تاريخ الإنسان؛ حين وجدت المثل العليا للعدالة سبيلها للحكومة وكل طبقات الشعب. ثم يبين بريستد أن العويل لم يكن جواب المصرين الوحيد على النتائج الوخيمة لخسوف ماعت والنكبة التاريخية الأولى بانهيار الدولة القديمة، وإنما بدأوا يدركون القيم الأخلاقية وبوضوح أكثر! وهو ما عبر عنه المفكر المبدع لقصة الفلاح الفصيح، الذى تتلخص شكاواه فى دعوته الى إحياء ماعت: أى العدل والصدق والحق. وقد رأى الحالمون بالمصلح المنتظر أن حلمهم قد تحقق عندما اعتلى أمنمحات الأول عرش مصر، وهو المؤسس العظيم للدولة الوسطى، الذى أعاد مجد مصر القديم مجددا. وقد ذُكِر عنه: أنه قد محا الظلم لأنه أحب العدل كثيراً؛ وهو القائل لوزيره الأعظم يوم تنصيبه: لا تنسَ أن تحكم بالعدل.. واعط كل ذى حق حقه.. واعلم أن الخوف من الأمير يأتى من إقامته العدل.. واعلم أنه جدير بالملك ألا يميل إلى المستكبر أكثر من المستضعف.. راعِ القانون الذى ألقى على عاتقك. وكما استوعب المصريون القدماء معنى أول ثورة اجتماعية فى التاريخ، فانه على رئيس مصر القادم أن يستوعب معنى ثورة المصريين الأحدث. أقصد ما أوجزته مراراً: إن الشعب لن يقبل، والحكم لن يستطيع، إدارة الدولة بالأساليب التى فجرت الثورة، وأن الشعب لن يقبل، والحكم لن يستطيع، تكريس أوضاع الظلم والفقر والقهر والذُل التى ولدت الثورة. ولن يتحقق هذا بغير التزامه بقيادة عملية بناء دولة المواطنة، التى تحقق ما يريده ويستحقه ويستطيعه المصريون. أقصد أن تكون مصر للمصريين، بأن تتمتع بالسيادة والكرامة الوطنية، وأن تكون الدولة لجميع مواطنيها، دون تمييز أو تهميش؛ ببناء نظام جديد يحقق ويحمى جميع حقوق المواطنة؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية. ويقتضى هذا التزام رئيس مصر القادم بقسم احترامه للدستور، خاصة ما ينص عليه من أن مصر لكل المصريين؛ تُحترم فيها جميع حقوقهم وحرياتهم دون تمييز؛ بعد حذف أهم ما دسه الإخوان وحلفاؤهم من مواد وصياغات تقوِّض دولة المواطنة بفرية حماية الهوية والشريعة فى دستور 2012. ورغم أن المهمة الملحة أمام الأمة المصرية هى دحر الفاشية التكفيرية والإرهابية لإنقاذ مصر دولةً ووطناً وأمةً وهويةً، فانه على الرئيس القادم استيعاب أنه لا يمكن مقايضة الحرية بالأمن ولا مقايضة الحرية بالخبز، بعد ثورة دوت بهتاف: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. وأكرر أخيرا، أنه على رئيس مصر القادم استيعاب أن التقدم- منذ الثورة الصناعية وحتى ثورة المعرفة- لم يتحقق فى أى مكان بغير التصنيع؛ رافعة النمو المتواصل للإنتاجية والتنافسية والثروة والتشغيل. فبدون تبنى سياسات اقتصادية تضمن أسبقية تنمية وتعميق وتنويع الصناعة التحويلية لن تعزز مصر أمنها القومى؛ بتعظيم قدرتها الصناعية والتكنولوجية ومن ثم قوتها الاقتصادية والشاملة، ولن يتمتع المصريون بأمنهم الإنسانى؛ فيتحرروا من الحاجة والفاقة والخوف. وليثق رئيس مصر القادم أن قدرات مصر تؤهلها- دون ريب- لأن تكون دولة صناعية متقدمة وغنية! وأن توسع عمران مصر بغزو الصحراء لا غنى عنه، ولكن بالاستثمار الانتاجى وخاصة الصناعى، وإلا فهو الانزلاق الى استنزاف الموارد المتاحة والمحتملة فى مشروعات جدواها الاقتصادية غائبة أو آجلة، تلهث من أجلها جماعات مصالح الجشع المنفلت والفساد المنظم بشبقها للمضاربة بالأرض والإثراء الفردى، وإن تعمَّق فقرُ الشعب وعوزُ الدولة. نقلا عن جريدة " الاهرام" المصرية