من منا وهو صغير لم يلبس حذاء والده، فيتعثر من كبر حجمه لصغر قدمنا، لكن نشعر بسعادة.. ومن منا وهو صغير لم يلبس نظارة أبيه فيشعر بالعظمة.. فالولد سر أبيه وامتداد له وحامل لاسمه.. لكن أن تفقد أباك فمعناه أن تشعر بالمعنى الحقيقى للوحدة، ففقد الأحباء غربة، وأى أحباء، فالأب يمد يده دوما ليساعد أبناءه، ولو مدت ألف يد فإنها لا تغنى عن يد الوالد المليئة بدفء وحنان الأبوة.. فإن تفقد أباك معناه الألم الدائم، والحزن العميق لأن قلب الأب لن يغفو إلا بعد أن تغفو جميع القلوب. حلم الأب والأم كثيرا بأن يريا ابنهما الوحيد ذات يوم منضما إلى صفوف الضباط مرتديا بدلة الضابط، كى يفخرا به وبأداء واجبه نحو وطنه، وبالفعل لم يبخل الأبوان على ابنهما قط، فعلماه أفضل تعليم كى يحقق لهما حلم عمرهما ويصبح ضابطا متميزا. كبر الابن والتحق بالكلية العسكريه وأصبح ضابطا، وحقق حلم أبيه وأمه، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فسرعان ما تبدد حال ابنهما واعتاد على كثرة الغياب من عمله، دون الإحساس بأدنى مسئولية تجاه طبيعة عمله كضابط، بل وزاد "الطين بلة" عندما ساءت علاقته بزملائه فى العمل واعتاد الشجار الدائم معهم، حتى عرف عنه بعدم الالتزام وعدم المسئولية. وتيقن رؤساؤه انه لن يكون الحائط الآمن الذى يحتمى به الناس من المجرمين، لكن تغيرت الأوضاع حتى أصبح الذئب الذى يتنكر تحت جلد الأغنام، فأنكر هذا الضابط فضل أبيه عليه بعد أن رباه وعلمه وكبره حتى أصبح ضابطا، ولم يكتف بالإنكار بل حمل لأبيه ضغائن دفينة فى قلبه، حتى بددت صورة أبيه أمام عينيه طيلة الوقت من صورة الأب إلى صورة العدو الذى يشهر سكينا فى وجهه ليريد التخلص منه فى أى وقت، ولم تجد والدته المسنة تفسيرا لهذا الشعور الغريب ولتلك الهواجس الذى اعتاد ابنهما أن يحملها لوالده الرجل المسن، فاعتاد أن يرى والده عدوا متربصا له، وليس أبا يريد أن يطمئن عليه. زاد هذا الشعور -غير المبرر- تجاه الابن لأبيه، فترة تلو الأخرى خصوصا بعدما تم فصل الشاب من الخدمة لسوء علاقته بزملائه فى العمل، ولكثره تغيبه وعدم التزامه، بل اعتاد السهر خارج المنزل لساعات طويلة دون أى شعور بالمسئولية، وكأى أب يريد أن يقوم سلوك ابنه ليعيده إلى طريق الصواب، اعتاد الأب توجيه اللوم لابنه وتوجيهه لإصلاح شأنه، إلا أن الضابط كان يتجاهل نصائح والده ويستمر فيما اختاره لنفسه من طريق الضياع والهلاك. ضاق صدر الضابط المفصول من قلق أبيه عليه وإلحاحه على البحث عن عمل جديد، وقرر أن يخسر الجدار الذى يستند إليه ويجعله فى مهب ريح قد لا يرحم من هم أمثاله.. وأن يفقد السماء التي تجود بنبع الحب والحنان، وفقد المظلة التى تحميه من الشرور وتجعله وحيدا في مواجهة العالم، ولأنه دأب على الخسارة لا المكسب عقد العزم على قتل أبيه حتى يرتكب كل ماتحلو له نفسه دون أن يجد مايوقظ ضميره ويدعوه إلى السير فى طريق الصواب، خصوصا إن كانت قاسية ومن ابن لأبيه. تحولت مشاعر الضابط إلى فريسة سهلة محفوفة بعقل معتوه، وابتلعه الخوف من جوفه، وتشابهت عليه الوجوه وتحولت حياته إلى لغز محال علمه، وتاه فى الدروب البعيدة المملؤة بالأشواك حتى نظر إلى السماء فرآها سحابة سوداء، تقتلع جذور الحب، وهبت عاصفة الجفاء وبات دفء الليالى كبرد الشتاء، ومن سلاح الكلمة التى اعتاد الابن أن يطعن به والده رافضا أى نصح، إلى السلاح الحقيقى الذى استخدمه مستسلما لأفكاره الشيطانية التى راودته، خُيل له من خلال بعض الهواجس أن والده دائم التربص به، بل واعتاد إشهار السكين فى وجهه، تلك الأفكار ما أتى الله بها من سلطان فهى من وحى هواجس ومخيلة الابن. استغل الضابط السابق المفصول من الخدمة منذ أربع سنوات، انشغال والدته فى أداء صلاة الفجر، وقام بإطلاق الرصاص بغزارة على والده العجوز، حتى أرداه قتيلًا داخل الشقة بمنطقة النزهة بمصر الجديدة، لحظات حبست الأنفاس وخفقت لها القلوب وتدافعت فيها المشاعر، واستعاد فيها الأب العجوز المسكين الذى لا حول له ولا قوة شريط الذكريات حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. خرجت الأم من أداء صلاة الفجر على أصوات خروج الروح من جسد شريك العمر والحماية والأمان، وانتابتها حاله من الهيستريا عندما علمت أن ابنهما الوحيد أزهق روح أبيه العجوز وخشيت أن ينالها مصير زوجها فهرولت إلى الجيران لتحتمى بهم حتى جاءت قوات الشرطه برئاسة العميد عبد العزيز خضر مفتش مباحث شرق القاهرة وتمكنت من القبض على الابن القاتل، وأمام بكر أحمد بكر رئيس نيابة شرق القاهرة اعترف الجانى بجريمته وأمرت النيابة بحبسه. تلك هى رجفة الموت، وفيها تلتزم الأركان الصمت، وتختبئ الأرواح، فلا ندرى أين نحن وأين هم، وكيف للسعادة أن تطرق بابًا رحل من يملك مفتاحه؟!.