كتب الدكتور أحمد يوسف أحمد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، المدير السابق لمعهد البحوث والدراسات العربية، مقالين بجريدة الوطن كشف فيهما بأسلوبه المعهود، المتسم دائما بالدماثة والتهذيب والصدق، عن محنة تواجه المعهد الذى ترك رئاسته رسميا قبل عام تقريبا (1993 2013)، ولكنه لم ينفصل عنه روحيا، بعد أن قضى فيه ثلث القرن تقريبا أستاذا ومعلما، فمديرا، ارتقى خلالها بخطوات سريعة من مجرد معهد تُدرس فيه بضعة تخصصات لا تكاد تعد على أصابع اليدين، ويمنح فقط درجة البكالوريوس، إلى جامعة كبرى تمنح درجتى الماجستير والدكتوراه، وتدرس فيها مختلف العلوم الإنسانية، وتنتج مئات الدراسات حول القضايا العربية. وقد تحقق ذلك لأن الرجل اعتبر المعهد مشروعا لحياته، وحاضنة لقيمه العروبية، وأحلامه القومية. فى المقالين حكى الرجل الكبير، عن أزمات كثيرة واجهته، ومعارك متوالية خاضها لتثبيت أركان المعهد، سواء تلك الناجمة عن إيديولوجيات غير عروبية وجدت أن مناهج المعهد تعاكس توجهاتها. أو نخبا فرانكفونية معادية بطبيعتها للروح القومية، تجد فيما يشيعه من ثقافة عربية، أمر يضاد طموحاتها، وينال من هيمنتها المفروضة على مجتمعاتها ودولها. أو أفكار رجعية لقوى مجتمعية حاربت ما سعى إليه الرجل من تشجيع للتعليم العالى، وتسهيل للدراسات العليا دونما نظر للمصروفات، إذ رأت فى تعليم مواطنيها البسطاء كسرا لميزة طبقية طالما تمتعت بها وحدها. هذه المعارك جميعها كسبها الرجل بهدوء وصلابة معهودين لديه، ضد الضغوط الخارجية، ولولا ذلك ما كان المعهد قد وصل إلى تلك القمة المزدهرة. ولكنه يحكى هذه المرة، وبألم عميق، عن أزمة تواجه المعهد من داخل الإطار الذى يعمل فى ظله وتحت لافتته، عن نزوع خفى لدى إرادة غير واعية تحيك للمعهد شرا، بكل ما يمثله من عراقة، وما يعكسه من رمزية ملهمة لمرحلة كبرى فى حياة الأمة، هى المرحلة القومية بكل ألقها وخصوبتها. لقد جسد المعهد نقطة ذروة فى سيرورة وعى النخبة العربية بأهمية الفكرة القومية، كإطار لمشروع النهوض العربي إبان منتصف القرن العشرين، بعد أن كانت الخطابات الفكرية لعصر النهضة العربية الثانية، التى انطلقت فى مطالع القرن التاسع، قد اقتصرت على المراوحة بين إطارين: أولهما إسلامى فضفاض، جسده بامتياز جمال الدين الأفغاني، داعية مشروع الجامعة الإسلامية، ومقولاته التى تناثرت لتتفاعل مع سقوط الخلافة العثمانية 1923، وتنتج لنا أفكار المودودى ومقولات سيد قطب، حول مفهوم الحاكمية، وما حفزَّه من حركات دينية سياسية، اكتوينا ولا نزال بنيرانها، حتى اليوم. وثانيهما محلى ضيق (وطنى) خصوصا فى مصر كما كان الأمر لدى الطهطاوى، ثم الجيل الثانى من دعاة النهضة العربية على منوال طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفى السيد وغيرهم. ففيما بين هذين الفضائين: المحلي الضيق جدا، والإسلامي الفضفاض تماما، بزغ المجال القومى فى الخطاب النهضوى العربى، ربما لأول مرة، لدى عبد الرحمن الكواكبى، وذلك فى سياق بحثه عن عقلانية عربية متحررة من الجبرية المكتسية بالنزعات الصوفية الغيبية، ومن الاستبداد السياسى وضغوطه القاهرة. وقد لاقت دعوة الكواكبى قوة دفع كبيرة عقب إعلان تركيا دولة قومية 1924م، حيث صارت وحدة العرب، كالترك، حلما راود الجميع، حتى بلغت الفكرة القومية ذروة تألقها النظرى فى أربعينيات القرن العشرين متمددة من قلب الشام إلى مصر فى القلب العربى عبر مدرسة الشرق، وهنا بالضبط كانت نقطة الذروة التى شهدت إنشاء المعهد بالقاهرة، تحت مظلة جامعة الدول العربية، كاحدي الهيئات العلمية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو)، فى مارس 1952م، أى قبل أربعة أشهر فقط من وقوع ثورة يوليو، التى أطلقت الحلم العربى، بطول الجغرافيا الممتدة بين المحيط والخليج، صانعة ما صار يسمى (عصر التحرر القومى) الذى جسدته عمليا الحركات القومية الناصرية والبعثية التى تمكنت من شغل الفضاء السياسى والإيديولوجى، وصياغة حس الاتجاه العربى طوال الربع الثالث من القرن العشرين تقريبا. وبرغم الأفول السياسي لهذا العصر، كان المعهد الذى وضع بذرته المفكر القومى ساطع الحصرى، ورأسه قامات من قبيل طه حسين وأحمد شفيق غربال، يزداد رسوخا ونموا وتفتحا، حتى صار فى العقدين الأخيرين بمثابة القناة الأبرز التى تعبر بتلقائية عن العروبة الثقافية، والجسر الذى يربط ثقافيا بين العرب والأفارقة. فالدارسون فيه عرب من كل الجنسيات، وأفارقة من دول الجوار العربي خصوصا تشاد. بعضهم من دول غنية كدول الخليج، وبعضهم فقراء من دول افريقيا السمراء، وما بينهما من مشارقة، ومغاربة متوسطى الحال، ولكن جميعهم يلتقون بين جدرانه، فى رفقة لا تنسي، ويعودون لبلدانهم بذاكرة لا تمحى، على نحو ينتج تدريجيا نخبة مؤمنة بالفكرة العربية، قادرة على نشرها فى مجتمعاتها، أو على الأقل حفظ ما تبقى منها، خصوصا لو عرفنا أن كثيرين من خريجى المعهد قد احتلوا مواقع بارزة فى بلدانهم، وأن عددا من وزراء الخارجية العرب كانوا تلاميذا وصاروا أصدقاء للرجل الكبير وحده. ما نرجوه من مؤسسات الدولة المصرية، البلد الحاضن للمعهد والعروبة على السواء، أن تقوم بدورها فى حل الأزمة الراهنة. وما نرجوه من المسئولين العرب، المعنيين بشأنه، أن يدركوا أهميته كصرح ثقافى عتيد، ربما استطاعت أجيال جديدة أن تبنى عليه سياسيا ما فشلت الأجيال السابقة فى بنائه، فالعروبة هوية حضارية راسخة، لا يمكن لتجربة سياسية سابقة أن تستنفد قوتها، بل تبقى حاضنة تاريخية مفتوحة على كل أحلامنا بالوحدة، وآمالنا فى التقدم. لمزيد من مقالات صلاح سالم