لعل أثرا وحيدا' نفسيا' للثورة المصرية يبدو مؤكدا حتي الآن, ماثلا للعيان, وهو نفي ما كان ينسبه الكثيرون إلي الشخصية المصرية في تاريخها الممتد من' ثقافة الخنوع' وهيمنة الدولة' الأبوية' علي العقد الاجتماعي بين السلطة والمجتمع, استنادا إلي الأدبيات النظرية الشائعة في الغرب والتي وجدت لها أصداء مصرية حول' نمط الإنتاج الآسيوي' أو' المجتمع الهيدروليكي والدولة النهرية' وجميعها تعني فرض الطبيعة الجغرافية لنوع من الحكومات متطرف في مركزيته, ونوع من المجتمعات متطرف في خضوعه. لقد هزمت الدولة الأبوية إذن, ودخل المصريون في ورشة سياسية كبري لصناعة دولة جديدة تسعي( فكر) اليوم إلي رسم معالمها الأساسية علي الأصعدة السياسة والاجتماعية والثقافية. فعلي الصعيد السياسي يذهب د. مصطفي علوي أستاذ العلوم السياسية المرموق بجامعة القاهرة, إلي ضرورة بناء دولة وطنية حديثة قادرة علي لعب دور إقليمي فعال ضمن التوازنات الإستراتيجية المحيطة بها, مؤكدا علي أهمية التقدم العلمي في صناعة هذه الدولة, وترسيخ هذا الدور, بحيث تتحول مصر إلي مصدر إلهام من دون أن تبذل جهد مكلف لترويج نموذجها السياسي. وعلي الصعيد الإجتماعي يذهب د. ابراهيم البيومي غانم, الخبير البارز بالمركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية إلي ضروة بناء دولة عادلة تستحق وصف دولة الثورة, التي لعبت المسألة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية دورا بارزا في تفجيرها, مؤكدا علي ضرورة تفكيك سلطوية الأغنياء علي الفقراء, باعتبارها إحدي السلطويات المركزية في تأزيم الحالة المصرية, والتي من دون تفكيكها تظل دوما قابلة للإشتعال. أما علي الصعيد الثقافي فيذهب كاتب هذه السطور إلي ضرورة إحداث المصالحة التاريخية بين المكونين الأساسيين في الهوية المصرية وهما العروبة والإسلام, اللذين تصارعا عليها في القرن العشرين, وتوارثا الفشل بفعل الحمولة الإيديولوجية العالية التي دفعت بهما إلي روح هجومية تشبه مفهوم تصدير الثورة باسم القومية العربية مرة, والإسلام السياسي مرة أخري, الأمر الذي يفرض علي كليهما الخلاص من المكون الإيديولوجي فيه, كي تتم المصالحة بينهما علي أرضية عروبة ثقافية لا تتنكر للإسلام, وإسلام حضاري لايتنكر للعروبة. ثمة عروبة هي من صميم هوية منطقتنا الحضارية هذه, لغة وتاريخا وثقافة وإن لم يكن بالضرورة عرقا, حيث توجد مع العرب أعراق أخري كردية وبربرية وبعض روافد زنجية وغيرها.. وثمة إسلام هو أيضا من صميم هوية هذه المنطقة, اعتقادا وقيما, وإن كان بين أهلها أرباب ديانات أخري مسيحية ويهودية, ومذاهب متعددة سنية وشيعية, وما بداخلهما من طوائف فرعية واتجاهات فكرية. وقد عاش هذان المكونان في تناغم تاريخي معقول وتعاضد تلقائي مفهوم, وإن شذت بعض المراحل, كما كان الأمر مثلا في قضية الشعوبية بين العرب والفرس قديما.. وهكذا. في هذا السياق التاريخي الممتد كانت العروبة, كما الإسلام, مجرد( جغرافيا ثقافية), يتحرك فيها العربي والمسلم بين بيئات محليه مختلفة نسبيا ولكنها متناغمة في العموم, ولم يكن ثمة إمكانية لأن يسأل صاحب محلة ما زائرا له: ما هو وطنك, أو ما هي دولتك؟. ليس فقط لأن السؤال ليس مهما, بل لأنه ليس له معني من الأصل. ومع بزوغ عصر النهضة العربية الثانية ثار الجدل حول مسالكها غير أن جلها انطلق من فضاء إسلامي واسع علي نحو ما جاء في خطابي جمال الدين الأفغاني, ومحمد عبده مثلا, حيث شكل الفضاء الإسلامي نقطة إرتكازهما الأساسية. وبعضها الآخر انطلق من فضاء محلي يصعب الادعاء بأنه( وطني) اللهم سوي في مصر كما كان الأمر لدي الطهطاوي, ثم لدي الجيل الثاني من دعاة النهضة العربية علي منوال طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد وغيرهم. وفيما بين الفضاء المحلي الضيق وبين الفضاء الإسلامي الواسع بزغ المجال( العربي) لأول مرة في الخطاب النهضوي لعبد الرحمن الكواكبي الذي انطلقت دعوته من فضاء قومي, بحثا عن عقلانية عربية متحررة من الجبرية السائدة والمكتسية بالنزعات الصوفية الغيبية, وكذلك من الإستبداد السياسي وضغوطاته القاهرة. وقد وجدت دعوة الكواكبي أثرها, بعد عقود من انطلاقها, في ضمير الفكر العربي الذي بلغ تألقه النظري في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين متمددا من الشام في المشرق العربي إلي مصر في القلب العربي عبر مدرسة الشرق, ثم بلغ ذروة تجسده العملي في الحركات القومية الناصرية والبعثية التي تمكنت من شغل الفضاء السياسي والإيديولوجي, وصياغة حس الإتجاه العربي في الربع الثالث من القرن العشرين تقريبا, قبل أن يدخل في طور الأفول نهاية, ربما بفعل هزيمة يونيو العسكرية عام1967 واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية مع الضفة وغزة وسيناء والجولان, وقبل أن يبدأ مسارا انسحابيا مع انتصاف السبعينات أمام التيار الإسلامي الزاحف بأطيافه المختلفة, ولكن بمرجعيته السلفية العامة. ولأن المرجعية السلفية لم تستطع الانتصار تماما علي نقيضتها الحديثة والمأزومة, ولم تأتي بسلطات جديدة الي الحكم إلا في حالات نادرة جدا, بينما صعدت إلي سطح المعارضة النشطة والقوية في أحيان قليلة من داخل إطار الشرعية, وأحيان كثيرة من خارجها, فقد أدت هذه القراءة إلي تشطير كثير من المجتمعات العربية إلي كتلتين, نشأت بينهما حالة فيزيائية نادرة الحدوث في المجتمعات الإنسانية, تقوم علي التماثل في القوة, والتضاد في الاتجاه علي نحو أعاق تكوين' كتلة تاريخية' متجانسة في الوعي والحركة وافقد المجتمعات العربية ما يمكن تسميته' حس الاتجاه التاريخي'. مع عاصفة الربيع العربي, كان مفترضا تفكيك هذه الثنائية الصلبة, حيث سقطت النظم الأكثر استبدادا والتي طالما التحفت بالإيديولوجيات القومية الموشاة بتجليات يسارية ونزعات عسكرية. وفي المقابل كان مفترضا أن تدخل السلفية الجهادية طور الذبول, إما لأن كتلتها الأساسية كانت قد إنزاحت, قبل هبوب العاصفة, إلي خارج المجتمعات العربية لتلعب أدوارا أوسع بدعوي( عالمية الجهاد), وإما لأن بعض أبرز مكوناتها من قبيل الجماعة الإسلامية, قد دخلت إلي حلبة السياسة. لكن ولأسباب كثيرة, لعل أهمها القصور الذاتي والعجز عن التجديد, فشل تيار الإسلام السياسي في اغتنام الفرصة, علي نحو أوصل حال الإستقطاب إلي مرحلة الإحتقان الفعلي التي وصلت ذروتها بانفجار30 يونيو الذي أطاح بحكم الجماعة, وأعادنا إلي عملية تأسيسية جديدة, تلعب فيها الهوية الوطنية المصرية دورا محوريا, ويلعب البعد العربي خصوصا الخليجي دورا داعما, فيما يبدو المكون الإسلامي( السياسي) مستبعدا ولكنه في حال توثب يتحين فرصة الإنقضاض, منتظرا دوره في عملية ثأرية تبدو مستمرة. وهكذا تدلنا خبرة التاريخ, علي أن المكون الإسلامي يتناوب مع العروبة حراسة هذه المنطقة, فإذا ما توارت الأخيرة يسطع الأول والعكس صحيح. كما تلهمنا حكمته بأن كل فكر مثالي يتعالي علي الواقع, يتعرض للإنحراف نحو النقيض في لحظة تحولية ما. وكلما ازداد الفكر مثالية ازداد تطرفا, وتنامت نزعنه الصدامية, ومن ثم كان فشله أكثر إحتمالا, وتراجعه أكثر عمقا ولعل هذا هو السبب في أن كل الأفكار المثالية, والحركات الراديكالية ظلت دائما علي هامش التاريخ. لقد فشل التيار القومي العربي حينما حول( العروبة الثقافية) إلي إيديولوجية سياسية حاول أن يفرضها علي الجميع علي طريقة تصدير الثورة الخمينية, متجاوزا واقع الدولة الوطنية العربية الجديدة التي كانت في طور الرسوخ السياسي, علي أرضية تباينات ثقافية محلية لا يمكن إنكارها كتنويعة علي الثقافة القومية الجامعة. ومن ثم كانت الإشتباكات العديدة بين ما أسمي لوقت طويل بالنظم التقدمية والنظم الرجعية, أو بين النظم الجمهورية الثورية والنظم الملكية المحافظة, خصوصا تلك التي وقعت في اليمن واستنزفت الجيش المصري ومهدت الطريق إلي هزيمة يونيو1967 م. كما كانت الإنشقاقات داخل المعسكر التقدمي نفسه سواء بين مصر وسوريا أعقاب الوحدة القصيرة حيث تم الإفتراق بين الناصرية والبعثية, أو داخل التيار البعثي نفسه داخل العراق من ناحية وسوريا من ناحية أخري. والمفارقة هنا أن النظم الموصوفة بالرجعية هي التي استمرت, وربما وجدت لدي بعضها نزعات إصلاحية متنامية, وتبقي مشكلاتها مع التحديث قائمة بالفعل ولكنها تعاني من أزمات واقعية اقل كما تتمتع بدرجة استمرارية أعلي. وفي المقابل فشل التيار الإسلامي في قيادة مصر, ولعله فشل مرشح للتعميم عربيا, حينما حاول خنق الإسلام الحضاري بقيمه السمحة, القابلة للتعددية, القادرة علي التوحيد والتكتيل بحبل الإسلام السياسي, وعلي مذبح طبيعته الإيديولوجية المنغلقة النازعة إلي التفكيك, فأثار المشكلات الطائفية والمذهبية, وفجر الكثير من الفتن السياسية داخل مصر ومع المحيط العربي علي نحو وضع العراقيل علي طريقه, وقاد إلي حصاره ثم فشله. والمفارقة الواضحة هنا هي أن دول الخليج العربي التي دخلت في تناقض مع موجة الإنتشار المصري في العهد الناصري, هي نفسها, تقريبا, التي دخلت في تناقض مشابه وفي مدي زمني أسرع مع موجة الإنتشار التي حاول الإخوان ممارستها بمد أذرعهم داخل الكثير منها. وبالطبع يقع ضمن هذا التشابه العام قدرا من التناقض في التفاصيل, بين طرائق التدخل, ونمط الإنتشار والبؤر المستهدفة, وطبيعة التحالفات الإقليمية والإرتباطات العالمية بمراكز القوة والنفوذ بين الموجة الأولي التي جسدها جمال عبد الناصر والبعثيون, وبين الموجة الثانية التي جسدها الإخوان والسلفيون, وهو أمر لا يجعل هاتين الموجتين متعادلتين عند التقييم التاريخي سواء في القيمة الحضارية أو التوجه الإنساني, إلا أن المغزي يبقي واحدا وهو أن تطرف العروبة في الأدلجة القومية, وتعاليها علي الدولة الوطنية, وانتهاج وسائل قسرية للإنتشار الإقليمي قاد إلي ممانعة وصدام أفضيا إلي هزيمة وتراجع أمام الخارج. كما أن التطرف في الدفع بالإسلام بعيدا عن قيمه الحضارية المؤسسة, والإفراط في توريطه الإنتهازي في آتون الصراعات السياسية, مع انتهاج وسائل خلفية للإنتشار الإقليمي, قد أفضي إلي هزيمة في الداخل وليس في الخارج هذه المرة, بل إنها أفضت إلي تعلق بالخارج, والدأب في محاولة استدعائه للخلاص من هزيمة الداخل, ما يبرز إحدي أهم التباينات بين موجة الإنتشار الناصرية ومحاولة الانتشار الاخوانية التي لم تبلغ حد الموجة, وهو مركزية الحس الوطني في الأولي, وهامشيته وربما غيابه في الثانية. ما نود أن نصل إليه في اللحظة الراهنة علي ضوء هذه القراءة التاريخية هو التأكيد علي حقيقة أن مجتمعاتنا العربية كافة تبدو بحاجة شديدة إلي التصالح مع نفسها.. الي الجمع السلس وربما الجدلي بين مرجعيتيها الكبريين: العربية والإسلامية بعد أن أفرطت في التعويل علي أيهما في مراحل مختلفة من تطورها, وبعد أن تنكرت كل مرجعية منهما إلي الأخري تحت ضغط الإدلجة وضيق الأفق وغياب الخيال الجامع, علي نحو أوعز لكلتيهما, وإن بدرجات مشروعية متباينة, بالقدرة علي صوغ المستقبل والتحكم بحركة التاريخ العربي. ومن ثم فإن تلك المصالحة لن تكون ممكنة, ناهيك عن أن تكون دائمة ومنتجة, من دون تخلي كلا منهما عن مثاليتها التي أودت بها إلي ضيق الأفق. فعلي المرجعية العربية أن تتخلي عن القومية كإيديولوجيا سياسية توحيدية, وكفكرة عدوانية مشاكسة, ومشروع ثوري قابل للتصدير, ولكن من دون تنازل بالطبع عن الهوية الحضارية التي لا يمكن التنازل عنها أصلا. وعلي المرجعية الإسلامية في المقابل أن تتنازل عن مطامعها السياسية, ونزعتها الجهادية التي لم يعد لها معني في العالم الحديث, وأن تقبل بالروح الوطنية الجامعة, وبالعلمانية السياسية, ولكن من دون تخلي بالطبع عن مكوناتها القيمية والحضارية, وهنا نكون أمام عروبة بلا أدلجة قومية, وإسلام بلا نزوع سياسي أو جهادي, وتكون المصالحة التاريخية أمرا ممكنا وأفقا واعدا. لمزيد من مقالات صلاح سالم