تخوض الموسيقي المصرية المعاصرة في مأزق علمي كبير للغاية ! هي تلك الكارثة التي بدأت اقدامها تدب في القرن السادس عشر اثر الاحتلال العثماني لمصر، ومازالت تتفاقم الي يومنا هذا ! انها مشكلة «اختلاق علوم موسيقية»! إنهم يبتدعون علوما موسيقية في مصر وتبلغ شجاعتهم حد إقرارها وإنزالها على رؤوس الطلاب بالمعاهد والكليات الجامعية والزج بها في مناهج الدراسة النظامية على الرغم من انها مختلقة ولا وجود لها بين مقررات العلوم الموسيقية في معاهد وجامعات العالم ! من تلك العلوم المختلقة لدينا : • العرض الموسيقي • الإيقاع الحركي ماذا نقول إزاءها! سننظر الي هذه « العلوم « تباعا وسنقف بداية عند «عروض الموسيقي» ونري كيف تم اختلاقها. ما من شك في ان كتابة النغم كانت اكبر مشاكل تاريخ الموسيقي، وقد كانت الشعوب القديمة تبكي دوما فقدان الحانها ونسيان وتبدل انغامها من جيل لجيل، ولا مفر إذ لم تكن هناك وسائل لتسجيل الالحان! وفي هذه الحالة وتلك الأحوال التاريخية أصبح ابتكار«التدوين الموسيقى» حلما كبيرا وأمنية بعيدة المنال . وقد أنشأت الحضارات المبكرة بداية من الاغريق القدامي طرقا أولية لكتابة الموسيقي مثل «التدوين الهجائي» بمنح كل نغمة من نغماتهم حرف من حروفا اللغة الاغريقية، حتي اذا ما أرادوا كتابة لحن وجدوا لكل نغمة من نغماته حرف من اللغة دال عليها فكتبوا النغمات بحروف اللغة تباعا. وقد عجزت هذه الطريقة عن تحقيق أهداف كثيرة فلم تتمكن مثلا من تحديد الزمن الذي تستغرقه كل نغمة، أي تحديد الامتداد الزمني لكل نغمة داخل اللحن، الأمر الذي اثر سلبا على تدوين الالحان وبالتالي استردادها! هكذا ذهبت الحضارات الاكثر تقدما – ومنها العربية – للبحث عن طرق أخري للتدوين. وكانت احدي هذه الطرق هي «عروض الشعر» حيث استخدمت بحور الشعر وتفاعيله لتحديد الزمن الذي تستغرقه كل نغمة نسبة إلى غيرها من النغمات. ومن عروض الشعر اصبح كل من السكون والحركة والوتد والسبب يشير الي زمن موسيقي أو آخر، ولذا سميت اولي ايقاعات العصور الوسطي العربية باسماء بحور الشعر ذاته: «إيقاع الرجز، إيقاع الرمل ... الخ» تماما مثلما حملت ايقاعات الاغريق اسماء بحورهم الشعريه «إيقاع ايامب، إيقاع انابست، إيقاع تروخي، داكتيل، سبوندي ...» ورغم ان الخطوة العروضية حققت قدرا أعلي من التقدم الا ان «تحديد الزمن» ظل قاصرا وتفاصيل الايقاع الاكثر دقة ناقصة ! ولذلك توالت الابتكارات، ومنها ما ظهر في اوروبا مثل : «تدوين الإشارات» pneumatic notation و«التدوين الروماني الكورالي» rom music notation و«التدوين الكنسي» وكلها خطوات افضت في النهاية الي التدوين الاكمل «تدوين المدرج ذي الخطوط الخمس» وهو المتبع الآن، أي أن تدوين اليوم إنما يتضمن ويجب خطوات التطور السابقة. لقد أختتمت الرحلة وتبلور علم «الصولفيج» القاضي بتدوين الموسيقي على المدرج. وعلم «الصولفيج» القائم على «تدوين المدرج» هو ما تعلمناه بمعاهدنا المصرية وتدرسه كافة معاهد العالم الآن ... غير اننا في مصر لا نكتفي به – كما تكتفي كل دول العالم – وانما نذهب الي «العروضية التاريخية القديمة» ونوقظها من رقادها ونبعثها ثم نلطم بها وجوه الطلاب ليتذاكروها ويعبروا امتحانها ! لقد راحت تلك «العروضية» البالية تزاحم في عقولهم الكتابة العصرية المكتملة «الصولفيج» وأصبحنا نحن نبعث للحياة خطوة تاريخية ناقصة من خطوات تشكل علم التدوين! واذا تضمن علم التدوين المعاصر «الصولفيج» الخطوات التاريخية السابقة عليه فاننا نزاحمه بخطوة تاريخية ادت اليه هو نفسه! ونخلط بذلك ماضي العلم بحاضره ونثير التشوش ونجعل الطالب يتساءل : « لماذا أكتب النغمات ناقصة في مادة العروض بينما أكتبها مكتملة في مادة الصولفيج ؟ والواقع إن لكل علم تاريخ خاصا وما نقوم به في مصر من اقتطاع جزء من تاريخا علم «الصولفيج» وتلقينه بوصفه علما كاملا لهو أمر مثير للدهشة وباعث على الفوضي ! واذا كنا نحن المصريين على صواب في ذلك فلماذا تكتفي اليوم معاهد اليونان ب «الصولفيج» وتترك ماضيها من «التدوين الهجائي» ؟ لماذا تكتفي معاهد ايطاليا (كونسرفاتوار روما مثلا) ب «الصولفيج» ولا تتناول الي جانبه «التدوين الروماني القديم»؟ لماذا تبتعد إيطاليا عن تدوين امبراطورية روما هذا وعن تاريخها العلمي؟ انها تبتعد لان قديم العلوم ناقص دائما ولأن العلوم لا تعود ابدا لبداياتها ولا ترجع لماضيها بحال .. تبتعد ايطاليا لان كل علم يظل يصحح أخطاءه ويستكمل نواقصه ولا يستطيع بعد ذلك العودة للوراء ! هذا .. ومازالت معاهد الموسيقي المصرية تقرع الطلاب بما يسمي «عروض الموسيقي»! • ماذا يتبقي لأمة ان فسد علمها ! لنستدير الآن صوب «العلم» الثاني المختلق «الايقاع الحركي» . كانت حجة اختلاق «الايقاع الحركي» في مصر هي «نقل الايقاعات العربية لعقل الطالب بجعله يرقصها حتى تلتصق بذاكرته» ! وفي «الايقاع الحركى» يقوم الاستاذ بتوقيع ايقاع ما بالنقر على طاولة أو مسطح ما (أو العزف) ، وعلى الطالب تحريك جسده اتساقا مع هذا الايقاع، ويأتي الاستاذ بعدها بتصويب حركات الطالب لكي تتطابق أكثر فأكثر مع الايقاع ! ولكن .. ما هذا؟ كيف يدرس معهد للموسيقي حركات الجسد مع الايقاع؟ أليس تحريك الجسد لتمثل الايقاع الموسيقي هو فن الرقص ! ءليس هذا فن الرقص بعينه! لماذا يتعين على دارس الموسيقي تعلم نوع من الرقص لدراسة الإيقاع بينما تتم دراسة الايقاع بالفعل في علم «قواعد الموسيقي العربية»! لقد اعتمد اختلاق «الايقاع الحركي» على محاولات جرت في فرنسا لتعليم الاطفال التحرك مع الإيقاع، وسارعنا نحن بعدها باستيراد التجربة ودون التعرف على نتائجها، تماما مثلما نستورد السلعة أو البضاعة ومثلما نستورد مفردات لغتنا اليومية دون التوقف لتأمل صلاحية تطبيق هذا أو ذاك ! ولزيادة الطين بلة يطلق مبتدعو «الايقاع الحركى» عليه اسم «صولفيج حركي» وهو بدوره اسم مختلق وزائف وغير وارد في دولة أخرى في العالم ! إذ ليس هناك «صولفيج» ساكن وآخر متحرك، وكل «صولفيج» هو حركي بحكم تتبعه لحركة الانغام وسير الالحان ! لاشك في أن عنصر الايقاع كان ومازال في مصر - كما في دول الشرق - أحد قطبي معادلة «اللحن / الايقاع» التي تتشكل منها الموسيقي لدينا، والموسيقييين لدينا معنييين بالدرجة الاولي بصياغة أغانيهم ومعزوفاتهم من لحن وإيقاع، وبلوغ أعلي اتساق ممكن بين طرفي المعادلة، أي أن عمل هؤلاء الموسيقيين هو تقديم الايقاع مغزولا باللحن، وإجادة ذلك النسيج اللحني / الايقاعي، وليس عملهم التعبير عن ذلك النسيج بحركات الجسد ! وعمل المعلم هو تدريبهم كيفية خلق الايقاع وليس تمثله ! ولاشك في ان علم «الصولفيج» إنما يدرس حركة الانغام المتوالية في اللحن وليس حركة جسد الانسان! وإذا كان على طلاب الموسيقى أن يرقصوا الإيقاع لكي يفهموه فماذا تركنا لطلاب معهد الرقص (الباليه) ؟ وإذا كان طالب معهد الرقص (الباليه) يدرس سنوات طويلة كيفية تمثل الإيقاع بجسده فلماذا نزاحمه في عمله؟ اننا نحن اهل الموسيقي نعزف لكي ترقص الناس ولا نستطيع نحن الرقص اثناء ذلك .. كيف تختلط المهام والتخصصات الفنية على هذا النحو؟ وليت كانت تلك وحدها المختلقة • العروض الموسيقية • الإيقاع الحركي بل وغيرها مثل : • قمم المبدعين .. وغيرها وغيرها ! هذا هو حال العلوم ... إن ما يحدث في مصر يفسر لنا بوضوح تام اسباب التراجع العلمي الآني!! كيف يمكن لبلادنا أن تنمو بينما العلوم تتعثر! ماذا يتبقي لأمة بعد ان فسد علمها!