هو رجل يقترب من عامه الخامس والثمانين، لكنه منتصب القامة ،انيق، يتحرك بنشاط و لا يفقد حماسه ابدا .. ممارسة الرياضة ليست هى السبب الرئيسى في الشباب الذى يطل من وجهه ويلمع في عينيه ،ولا هى السبب في ابتسامته و منتهى الاهتمام الذى يتكلم به،عن عمله، وعن المستقبل .. حين تقابله تتأكد انك وجدت اخيرا، رجلا يعرف لحياته معنى وهدفا، وقد قرر بكل ما أوتى من قوة ،ان يعيش هذا المعنى ويحقق الهدف و يوصل الرسالة .. في يوم من الأيام ، وقبل 20 عاما، التقى الرجل، بفتاة صغيرة في احدى مدارس الاقاليم، وسلم عليها بحماس وشجعها بكلمات أغلى من الماس، لأنها كتبت قصة جميلة، وفازت في مسابقة الصحافة المدرسية، على مستوى الجمهورية . لم يكن الرجل يوزع هدايا ولا جوائز مالية، كل ما كان يملكه يومها اهتمامه واحترامه للتلاميذ الموهوبين ،في المدارس الحكومية، وقد اعطى بعضهم شهادات تقدير ، ووقف بينهم لالتقاط الصور التذكارية. فرحت الفتاة ذات السن الصغيرة بشهادة التقدير، وباعتزاز شديد احتفظت لسنوات بصورتها ،مع الاستاذ الكبير الشهير، ولم تنس في حياتها هذا اليوم ابدا. ومثلما تروى الحواديت، مرت الايام والسنوات ،كبرت الفتاة،وتركت مدينتها الصغيرة،ووسافرت للعاصمة الواسعة،وهناك احترفت الصحافة في الجرائد والمجلات .. ومرة من ذات المرات، طلب التليفزيون ان يستضيفها، لتتكلم عن احدث كتبها،واستجابت الفتاة وذهبت، لكن حادثة كبيرة ليلتهاوقعت،وقررالتليفزيون تأجيل البرنامج لحين اذاعة بيان مهم، وجمع الضيوف معا في صالون ، فجلسوا ينتظرون...،وهناك وجدت الفتاة استاذها امامها،فأسرعت اليه في غاية السعادة، تذكره بنفسها. فرح الرجل بها، واعطاها كل قصصه الجديدة،التى جاء نفس البرنامج ليتحدث بشأنها! هذا الرجل الكريم، كان الاستاذ يعقوب الشارونى، والفتاة كانت انا.. • يعقوب الشارونى احد اشهر كتاب الحواديت وأدب الاطفال في مصر والعالم ..له مئات القصص،عدد كبير منها ترجم الى مختلف اللغات، ونال أعلى الجوائز في انحاء الدنيا، لكن هذا ليس كل انجازه، إنه يستطيع ان يغير مجرى حياتك، ؤن انت صدقت معانى الحب و الشجاعة و قوة الانسان وانتصار الخير في حواديته، وتلك هى المعجزة والفكرة . كان حوارنا ممتعا ، لأسباب كثيرة، اولها انه أعطانى عددا مهولا من قطع الشيكولاتة وقصص الأطفال الملونة، بينما انا اتأمل مكتبته واسأله عن السفر والتعليم والدستور و الفلوس و الارهاب، اما حين سألته عن الرئيس السيسى فاجأنى هو وحدثنى عن الرئيس الامريكى، وقال : أتذكرين وقت تفجير برجى التجارة العالميين؟ أتعلمي حين ارادوا ان يبلغوا الرئيس الأمريكى بالخبر اين وجدوه ؟ كان يقرأ إحدى قصص الأطفال للتلاميذ في مدرسة ابتدائية (!) العالم كله شاهد صورة جورج بوش يومها ، وهناك صور منشورة مثلها لبيل كلينتون، وهو يقرأ اكثر قصص الاطفال مبيعا، للتلاميذ الصغار في مدرسة، إنه تقليد معتاد في امريكا،ولكن لماذا يقوم به رئيس الجمهورية ؟ لأن هناك ارادة سياسية قوية، في نشر الثقافة وعادة القراءة بين الاطفال، وكى يكون هناك قدوة،لا تقل في أهميتها وتأثيرها عن رئيس الولاياتالمتحدة بنفسه. وقد تدهشين لو قلت لك إن عبد الناصر كان يفعل نفس الشىء . •• عبد الناصر كان يفعل نفس الشىء في مصر !! كيف ؟ • عبد الناصر كان شديد الاحتفاء بالثقافة والفنون ، مثلا في عام 1960 طلب عبد الناصر عمل مسابقة لكتابة المسرحيات والقصص التى تروى للجيل الجديد عن بطولات الشعب المصرى، وأقام المسابقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب و العلوم الاجتماعية، وتقدم لها حوالى مائتين من كتاب المسرح والطفل ، وسنتها فازت بالمركز الأول المسرحية، التى كتبتها عن انتصار المنصورة على الفرنسيين وأسر لويس التاسع، فقرر عبد الناصر بمنتهى الاهتمام ان يقام حفل توزيع الجوائز في مدينة المنصورة موقع الأحداث، وكان مقررا ان يقام الحفل في المكتبة المركزية للمحافظة، لكن عبد الناصر وجد نصف مليون مواطن في انتظاره بالمنصورة، احتفالا بزيارته لهم، فأمر بنقل الميكرفونات ومراسم الاحتفال لأكبر ميادين المنصورة،وقبل ان يقترب من الميكروفون ويحيى الجماهير ، قال نحن هنا من اجل الطفل و المسرحيات الفائزة، لذا يجب ان تكون الكلمة الاولى ليعقوب الشارونى صاحب الجائزة الاولى( كان عمرى وقتها 29 عاما) وقدمنى عليه، تقديرا لدور الثقافة ،.. كانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لى، غيرت مجرى حياتى، لدرجة انى بعد ان القيت كلمتى، قررت ان استقيل من عملى وقتها كوكيل نيابة ، واعتزل السلك القضائى نهائيا، واتفرغ لكتابة الأدب وقصص الأطفال !! • ألم يكن صعبا عليك التخلى عن مستقبلك الوظيفى المرموق في السلك القضائى، كى تكون كاتبا لحواديت الاطفال؟ •• صحيح عملت في هيئة قضايا الدولة، وحققت في قضايا مهمة، وكان يمكن ان اكون محاميا كبيرا فيما بعد، لكنى شعرت ان في مصر مئات القضاة و المحامين، ووكلاء النيابة البارعين، ولن يكون هناك ضرر لو ينقصون واحدا، لكن كتاب الاطفال في مصر قليلون، ومصر تحتاجهم بشدة. • هل تغير الاطفال كثيرا في مصر ؟ •• كثيرا جدا .. و تستطيعين ان تقسمى ثقافة الطفل المصرى الى قسمين، ما قبل 25 يناير وما بعد 25 يناير . بعد الثورة الكلام كله عن السياسة، والطفل لا يشاهد تقريبا غير العنف والضرب والحرق في نشرات الاخبار، ومقدموبرامج التوك شو صاروا هم نجوم المجتمع والمثل الأعلى امامه! عدد كبير من مكتبات الاسرة التى كانت تسمى مكتبات سوزان مبارك تم حرقها وتم اتلاف محتوياتها فى اثناء الثورة، وحتى اليوم مغلقة، المكتبات العامة وقصور الثقافة التى يمكن ان يتردد عليها أطفال الأقاليم، فارغة، وحتى الجمعيات الأهلية والمدارس الابتدائية لا تمارس اى نشاط ثقافى مفيد للطفل بسبب ارتباك الظروف السياسية. بماذا ينشغل الطفل اذن، واين يخرج طاقته ،وهو لا يغادر بيته أو مكانه امام التليفزيون ، وكل ما حوله عنف واعلانات بلا قيم او افلام مبتذلة؟ نحن كما لو كنا نربى اطفالا (مدمنين) للارهاب و العنف، وليس للعلم و الفن و الفكر المستنير، كيف سيكون مستقبل مصر، اذا كنا نربى اولادنا هكذا ؟ • وماذا يستطيع ان يفعل السيسى لينقذ الموقف،فى رأيك ؟ • • في اول خطاب للرئيس عبد الفتاح السيسى،بعد حفل التنصيب،(9يونيو 2014 ) تعهد بتطوير التعليم وكافة عناصره (معمل ومكتبات ومسارح وملاعب رياضية) ، وفي برنامجه الانتخابى،كتب تحت عنوان (رؤية للمستقبل ) : انه ملتزم بالابقاء على مشروع مكتبة الأسرة ودعمه، وتمكينه من مواصلة رسالته، و ملزم بالعمل على انشاء (مكتبة لكل قرية)، و في نفس البرنامج الانتخابى، في باب الثقافة و الاعلام والابداع، تعهد بالنهوض بمكانة مصر الثقافية و الاقتصادية معا، لتعزيز صورة مصر عالميا وأكد ان بناء الانسان المصرى لا يبدأ الا ببناء الطفل. والآن على السيد الرئيس ان يجد الوسائل لتنفيذ ما تعهد به للشعب. • هل تقصد مثلا ان يزور إحدى المدارس الابتدائية الحكومية، ويشجع التلاميذ على القراءة كما يفعل الرؤساء في امريكا ؟ • ليس شرطا ان يقوم بزيارة المدرسة بنفسه، اذا لم تسمح الظروف السياسية او مقتضيات الحرب الدائرة على الارهاب ، لكن على الاقل يفتح المجال للشخصيات السياسية و الفنانين و الكتاب الكبار و المحافظين والشخصيات العامة والقيادات الامنية بأن تقوموا بهذا الدور، ويناقشون الأطفال في الفصول عن المرور مثلا أو مستقبل مصر او مكافحة الإرهاب، او افضل كتب ومسرحيات الاطفال لهذا العام .. المهم ان يشعر الجميع ان القيادة السياسية لديها ارادة حقيقية في دعم هذا الاتجاه. الافكار الجديدة الجميلة لا تكلف شيئا، و علينا ان نجربها ونعتمد عليها و ننشرها ، قبل ان نشكو ونعانى من نقص الامكانيات المادية . • تعنى ان الفقر لا يمنع الافكار الجميلة ؟ •• زمان ،الفقر لم يمنع سعادة الأطفال وهم يلعبون الكرة الشراب، ونقص الامكانات لا يمنع مثلا نشاط الاذاعة المدرسية، ولا يمنع ان نضع في بعض الشوارع الواسعة،على عمدان النور،شبكات لكرة السلة، كى نشجع النشاط الرياضى .. لماذا لا نفعل مثل روسيا ونقيم مسابقات قومية للشطرنج؟ الشعب المصرى محتاج يلعب شطرنج، كى يتعلم ان يحسب حسابا لكل خطوة،ويفكر في العواقب، وشكل المستقبل و المكاسب والخسائر التى تتحدد حسب اختياراته . الدعم المالى، ليس كل شىء في التربية والتعليم، واكتشاف المواهب، الدعم المعنوى اخطر واهم بكثير.. في طفولتى، كان عندى استاذ للغة العربية اسمه الاستاذ عبد الفتاح رحمة الله عليه، شاهدنى مرة وهو يشرح الدرس منشغلا عنه، و كنت في اولى ابتدائى، اقترب من مكان جلوسى واوقفنى ، ونهرنى وهو يسألنى ( حضرتك سايب الدرس ومشغول في ايه؟) استجمعت شجاعتى وقلت له ( بكتب رواية) .. اندهش جدا من ردى، فقال ساخرا ( طب يا سيدى تعالى اطلع هنا قدام زمايلك .. واقرأ ما كتبت وسمعنا الرواية بتاعتك ) و فعلا امسكت كراسى وبدأت في قراءة ما كتبت .. بعدها فوجئت بالاستاذ الغاضب المخيف، يقترب، ويطبطب على كتفى في حنان، ثم يقول ( اقعد يا بنى .. و اكمل ما كتبت، ربنا يفتح عليك ) ! كان هذا الاعتراف المبكر من استاذ المدرسة اكبر وسام،و أغلى جائزة حصلت عليها في حياتى . • تأملت بعض اركان بيته المريح ومكتبته العظيمة المبهجة، مع البساطة المفرطة في كل شىء، ثم سألته : هل من صفات كتاب الأطفال اعطاء اولوية للقيم و المعانى و المثل العليا، على حساب الماديات والشهرة والفلوس مثلا ؟ •• ابتسم وهو يرد : والله فكرت في هذا الموضوع كثيرا .. ووجدت انها مسألة منهج في التفكير، بعض الناس وبعض الدول مثل امريكا، تقيس النجاح بمقياس ( انا كسبت كام النهاردة؟) وهناك ناس و دول اخرى مثل اليابان ،تقيس النجاح بمقياس(انا انتجت ايه النهاردة ؟) انا تفكيرى يابانى، اقيس نجاحى بحجم ما انتجته وكتبته للأطفال وللمستقبل ،وبحجم الأفكار التى قدمتها كى تصبح الحياة أفضل في مصر، واشعر ان هذه رسالتى الحقيقية على الارض. من اجلها أعمل وآسافر وأطور نفسى وأدواتى كل يوم. وبسببها انتشرت اعمالى وترجمت في العالم،حتى إنهم دعونى مؤخرا لمدرسة في نيويورك،ووجدت الأطفال هناك قد حولوا احدى قصصى، لرسوم وموسيقى وعمل تمثيلى واستوحوا من افكارها موسيقى ورقصا تعبيريا ونموذجا هندسيا من الكرتون ..هكذا يتعاملون مع قصص الأطفال ،كى يشجعوا النشء على الابداع و التعبير عن نفسه، بقوة الخيال والفن. • بعد نصف قرن من الكتابة للأطفال،ومازلت في قمة حماسك للحياة و للعطاء، كيف تصف طريق النجاح لمن يسير على الدرب بعدك ؟ •• احترموا الطفل ولو كان جنينا في بطن امه،لا تستهينوا بعقله او مشاعره ابدا ، وقدموا له المتعة قبل الفكرة، فهو لن يستجيب لأى نصيحة و لن يفهم اى حكمة ، الا اذا قدمتها له في شكل جذاب ومسل، وهذا دور الفن والحدوتة. كاتب الطفل يجب ان يقرأ الموسوعات،ويختلط بالناس ، ويهتم بكل مجال،لأنه يختار من كل 5000 معلومة 50 معلومة او اقل و يوظفها في قصته كى تكون مقنعة،ومفيدة،لمن يقرأها. عشرات المرات شعرت بسعادة غامرة، لأن شخصا قال لى، إنه قرأ ولو بالصدفة حدوتة قصيرة كتبتها في جريدة ،فشعر انها رسالة من السماء له، و لأنها مست وترا في حياته، فهم العبرة، وتغير سلوكه، او تفكيره من يومها! • ويكمل يعقوب الشارونى في حماس : أريد ان احكى لكم الآن حدوتة قصيرة، لكنها واقعية، وحدثت بالفعل في لندن عام 2012 مع احدى قريباتى ..كانت اما حديثة الولادة،وبعد ان وضعت طفلها بأسبوع، وجدت امينة المكتبة التى تقع في حيها تزورها بالبيت، وتقدم لها كارنيه اشتراك بمكتبة لندن، قالت لها الأم اشكرك، لكنى انا وزوجى مشتركان بالمكتبة،منذ سنوات، لأننا نحضر للدراسات العليا. ردت امينة المكتبة: لكنه ليس اشتراكا لك او لزوجك يا سيدتى ،انه اشتراك الطفل الجديد. قالت لها الام في دهشة: ابنى لا يزيد عمره على اسبوع ! قالت امينة المكتبة: اعرف ذلك، فقد علمت بوجوده من دفتر مواليد المدينة، ونحن نقدم كارنيه مكتبة لكل مولود، كى تذهب الأم وتحضر له، من القسم الخاص بحديثى الولادة، كل الوسائل السمعية والبصرية،التى تلائم مراحل نموه، وادراكه، كى يتطور في اسابيعه وشهوره الاولى،بقدر المستطاع،ويحسن التعامل مع عالمه الخارجى،بمساعدة القصص والوسائل التعليمية باللمس والرائحة والالوان و الصوت، وحين يكبر سيكون تعود على وجود كتاب بالقرب منه (!) • انتهى الوقت وغادرت بيت الاستاذ يعقوب ، لكن بصعوبة بالغة .. ليس سهلا ان تفارق بيتا مبهجا مبهرا ، يمتلئ بالدهشة والحواديت و الشيكولاتة !!