منذ أيام قلائل، احتفلت لجنة الأدب بأتيليه القاهرة بمثانينية الكاتب الكبير يعقوب الشاروني، أحد رواد الكتابة للأطفال في مصر والعالم العربي، وشارك في هذه الاحتفالية عدد كبير من تلامذة الشاروني وأصدقائه والمهتمين بأدب وثقافة الأطفال، كانت ليلة رائعة تلك التي تحدث فيها الشاروني عن مشوار حياته المليء بالأحداث والصعوبات والنجاحات المتتالية حتي صار قامة سامقة في مجال الكتابة للأطفال، كما حكت د. هالة الشاروني ابنة الكاتب عن علاقاتها بوالدها، وكيف كان يحكي لها القصص في المنزل بمصاحبة الفانوس السحري، تلك الحكايات التي أثرت في مخيلتهما هي وأخيها، وجعلتهما أيضا يحلقان في عالم الكتابة والرسوم للأطفال، كما جاءت كلمات تلامذته وأحبائه مليئة بالحب والاعتراف بقيمة وقامة الشاروني الذي لم يتأخر يوما بمد يد العطاء لكل من يسأله المساعدة، قدم هذه الاحتفالية الناقد الدكتور شريف الجيار نائب رئيس الأتيليه والمشرف علي لجنة الأدب، والذي ألقي هو الآخر شهادة حب ربطت بينه وبين الشاروني. ينتمي يعقوب الشاروني إلي الجيل الثالث في الكتابة للأطفال بعد جيل كامل كيلاني الرائد الأول لها، ثم تبعه جيل سعيد العريان، وبرانق، وعادل الغضبان، وغيرهم من الكتاب، ليأتي جيل الشاروني، وعبدالتواب يوسف، والراحل أحمد نجيب، هذا الجيل الذي رسخ لأدب وثقافة الأطفال، وجعلوه أدبا معترفا به من قبل مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، لإنتاجهم الغزير والمتنوع بين القصة والرواية والمسرح للطفل، والبحوث، والدراسات النقدية، ومشاركتهم بفاعلية في كل ما يخص أدب وثقافة الأطفال. شلال من الثقافة تعرفت علي يعقوب الشاروني لأول مرة من خلال كتبه التي كانت تملأ رفوف مكتبة الطفل ببيت ثقافة أنور المعداوي بمطوبس، الذي عملت به بعد ذلك مسئولا عن الثقافة العامة في بداية حياتي الوظيفية، وقبل أن أنتقل إلي القاهرة، هذه الكتب أثرت في وجداني، وحركت مخيلتي الإبداعية، قبل أن أكتب للأطفال حرفا واحدا، ولم أكن أعد نفسي لأكون كاتبا للأطفال في يوم من الأيام، ولكن الأقدار هي التي ساقتني إلي هذه الكتابة، حينما التحقت بالعمل بمجلة قطر الندي سكرتيرا للتحرير، التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة للأطفال، وذلك في منتصف التسعينات، منذ ذلك التاريخ بدأت اهتماماتي تزداد بثقافة وصحافة الأطفال، ودخلت إلي هذا العالم السحري علي استحياء شديد، إلي أن فتنت به، وأخلصت لهذه الكتابة أشد الاخلاص، وكنت كلما ذهبت إلي ندوة أو مؤتمر للأطفال أجد الأستاذ يعقوب الشاروني في مقدمة الحضور، ولا تفوته أي مناسبة خاصة بثقافة وكتابة الأطفال إلا وأجده من أوائل الحضور سواء كان متحدثا رئيسيا أو متلقيا، لا يهمه ذلك ولا يضعه في حسبانه، قدر ما يهمه الحضور والمشاركة، وحينما يتحدث تجده وكأن شلالا من الثقافة العميقة قد انفجر فلا تستطيع أمامه إلا أن تنصت فقط، وقد تجرأت ذات يوم في بداية علاقتي به وسألته: لماذا أنت حريص علي حضور كل الفاعليات الثقافية الخاصة بالطفل؟ قال: لكي أتعلم. من يومها وعيت الدرس جيدا، وعرفت أنني طالما أحيا علي وجه هذه الخليقة، لابد وأن أتعلم كل يوم جديد وأضيف إلي معارفي ما يجعلني جديرا بأن أعيش الحياة، هذا الدرس الأول الذي تعلمته من الشاروني، بدأت أتقرب من هذه الشخصية الثرية، وأذكر حينما أقامت الهيئة العامة لقصور الثقافة احتفالية بمناسبة صدور العدد (50) من مجلة قطر الندي بمدينة الإسماعيلية، أيام أن كان حسين مهران رئيسا للهيئة، والفنان عبدالرحمن نور الدين رئيسا للتحرير، شارك معنا الشاروني ببحث في هذه الاحتفالية وكان من أشد المتحمسين لها، بدأت علاقتي به تزداد، وراح يدعوني للمشاركة في الندوة الشهرية التي كان يقيمها في مكتبة الطفل بالجيزة، وكانت ندوة ثرية يجيء إليها كتاب الأطفال من القاهرة والمدن الأخري خاصة أدباء محافظة الغربية، وقد تعرفت علي معظم هؤلاء الكتاب والرسامين من خلال هذه الندوة التي نقلها بعد ذلك إلي بيته، نتيجة خلاف حدث بينه وبين القائمين علي هذه المكتبة، كانت هذه الندوة، بمثابة ورشة أدبية وثقافية تناقش فيها أعمال كتاب الأطفال الجديدة من رواد الندوة، وأثناء الندوة يعرض علينا الأستاذ الشاروني أحدث الكتب الحائزة علي جوائز في أمريكا وأوروبا والتي جلبها معه من سفرياته المتكررة إلي أمريكا، تعرفت علي بيت الشاروني الذي يعتبر بحق مؤسسة ثقافية، الكل في هذا البيت يعمل بدأب، تجد السكرتارية تصور لك الأعمال التي ستناقش وتوزعها عليك، وتتصل بك لتخبرك بموعد انعقادها أو تأجيلها، وكثيرا ما كان الأستاذ الشاروني يرسل لي بعض أعماله المخطوطة عن طريق البريد ليأخذ رأيي ورأي الأصدقاء ممن يثق بهم في هذه الأعمال قبل أن يدفع بها إلي المطبعة، وكثيرا ما كنت أتقاعس عن أن أرسل له رأيي، لكنه بحب كان لا يكف عن دعوتي لمناقشة تلك الأعمال في ندوته الشهرية، وكانت تمنعني ظروفي كثيرا عن الحضور، لكنه لا يكف عن المحبة أبدا ووجهه دائم الابتسام، وأعترف أنني لم أذهب إليه مرة في بيته إلا وخرجت بفائدة، أو حاملا العديد من الكتب الجديدة التي جلبها لنا من سفرياته. غاية في النظام تعاملت مع يعقوب الشاروني عن قرب حينما كان يكتب لنا بابا ثابتا في مجلة قطر الندي عن السياسة، وكان الرجل غاية في النظام فيرسل لنا أكثر من ثلاث حلقات مرة واحدة حتي لا يكون سببا في تعطيل صدور المجلة، لأن الرجل يعمل بجدية ويرسخ لها لتكون مبدأ حياة وسلوكا، دعوته ذات يوم من أيام شتاء عام 2005 لحضور عرض مسرحيتي «القلم المغرور» التي كان يعرضها المسرح القومي للأطفال بمسرح العرائس ضمن المهرجان الأول للكاتب المسرحي المصري، توقعت يومها عدم حضوره خاصة أن العلاقة بيننا كانت عادية، ليفاجئني بكونه أول الحاضرين يجلس في الصف الأول في مواجهة خشبة المسرح، وبعد انتهاء العرض إذا به يصافحني بحرارة ويشد علي يدي قائلا: برافو عليك، استمر، أنت كاتب متميز في المسرح.. بل وشارك برأيه في الندوة التي عقدت بعد العرض ليأتي كلامه مصدقا لما شعرت به من إخلاص تجاه عملي، هذا هو الدرس الثاني الذي تعلمته من الرجل، كلما قابلني الأستاذ يعقوب الشاروني مصادفة أو في إحدي الندوات الخاصة بالطفل إلا ويقول لي أنا سعيد بما تكتب قرأت لك كذا في جريدة «القاهرة»، وفي نهاية الندوة يوزع علينا عطاياه من آخر إصدارات كتبه عن دار المعارف وغيرها من الدور التي يتعامل معها، فحقيبته مليئة دائما بالكتب، وعلي حد تعبير د.عطيات أبوالعينين في الاحتفالية: إنها حقيبة بابا نويل التي يوزع منها عطاياه علي الصغار، فيعقوب الشاروني يوزع كتبه التي كتبها للصغار علي أبنائه من الكبار، ولا أنسي يوم رشحني الأستاذ الشاروني مع آخرين في البرنامج الدولي للقضاء علي عمل الأطفال (ipec) التابع لمنظمة العمل الدولية (ilo)، والتي نظمها الاتحاد العام للكشافة والمرشدات، للمشاركة بالتحكيم في مشروع نادي الصرخة لعمل الأطفال بالقاهرة «دعم حقوق الأطفال من خلال التعليم والفنون والإعلام»، وأيضا رشحني ضمن ورشة العمل التي أقامها المجلس العربي للطفولة والتنمية والتي ضمت أكثر من ثلاثين إعلاميا علي مستوي الوطن العربي علي هامش مؤتمر الأطفال ذوي الإعاقة العام الماضي، وقد زاملته في العديد من المؤتمرات وشعبة أدب الطفل باتحاد الكتاب، ولمست في الرجل مدي إخلاصه في مساعدة الآخرين خاصة من المتميزين في مجال الكتابة والرسوم للأطفال، وقد كتب الكثير والكثير للأطفال إذ يربو إنتاجه في التأليف لهم علي 400 كتاب، علاوة علي موسوعة «العالم بين يديك» التي صدرت في عشرة أجزاء، وموسوعة «الكتب الموسيقية» التي قام بترجمتها في ثمانية كتب قصصية، تشترك فيها الكلمة والصورة والأصوات الموسيقية في خلق نوع من المشاركة والتفاعل بين الطفل وكل كتاب، كما ترجم عدداً كبيراً من قصصه وروايته إلي عدة لغات أجنبية، منها: الانجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والماليزية، وقد حصل علي أكبر الجوائز المصرية والعربية والعالمية، ففي عام 1981 حصل علي جائزة أحسن كاتب للأطفال عن قصته «سر الاختفاء العجيب»، وفي عام 1991 ونتيجة استفتاء تم أثناء مهرجان القراءة للجميع بمدينة السويس، اختار الأطفال كاتبنا يعقوب الشاروني كأحسن مؤلف لأدب الطفل، وفي 23 يوليو 1993، وبمناسبة المهرجان الثالث للقراءة للجميع، سلمته السيدة سوزان مبارك ميدالية التكريم الذهبية تقديرا لجهوده في مجال أدب وثقافة الطفل، كما حصل كتابه «أجمل الحكايات الشعبية»، علي جائزة من معرض بولونيا الدولي للكتاب، والعديد من الجوائز الأخري، وقد اختير عام 1982 ليكتب باب الطفل بصحيفة الأهرام بعنوان «لطفلك»، وقد اختار الشاروني للقصة التي ينشرها عنوان «حكاية أعجبتني» وينشر هذا الباب حاليا تحت عنوان «ألف حكاية وحكاية» وتمت دراسة إبداع الشاروني للأطفال في أكثر من رسالة ماجستير ودكتوراة، ومازال الرجل يعطي الكثير للحياة الأدبية والثقافية، وخاصة في أدب وثقافة الطفل التي نذر نفسه لها، أعطاه الله الصحة والعافية ومتعه بالعمر الجميل.