لم تلتفت غالبية من المهتمين بالشأن العام فى مصر إلى تطور جديد يمكن البناء عليه لو أردنا إصلاحا جادا لعمل أجهزة الدولة وتواصل الموظف العمومى مع الجمهور، فقد أصدرت وزارة التخطيط «مدونة السلوك الوظيفي» للعاملين بالجهاز الإدارى بالدولة قبل أيام وهى خطوة متقدمة تحدد المبادئ العامة التى تحكم الممارسة وتصير بمجرد توقيعها دستورا ملزما للموظف العام يتحمل بعدها نتائج أى سلوك يتناقض مع مهام وظيفته. والأهم فى المبادىء الأساسية للمدونة هو إعلاء قيمة الاختيار والترقى على أسس قدرات الموظفين ومهاراتهم وتوفير التدريب المستمر وتجنب التعسف فى المعاملة وفى المقابل يلتزم الموظف بعدم استغلال سلطاتهم أو التأثير فى الخدمات أو العملية الإنتخابية والحفاظ على أسرار العمل ولكن حمايتهم فى حال تقديمهم معلومات بشكل قانوني. كما تضع مدونة السلوك قواعد خمسا للواجبات الوظيفية هى احترام القانون، والحيادية، والنزاهة، والاجتهاد، والكفاءة والفاعلية. وقد استرشدت المدونة بعدد من التجارب الدولية فى مقدمتها تجربة فرنسا التى وضعت مدونة السلوك الوظيفى جزءا من عقود العمل حتى يكون هناك إلزام على الموظفين للتوقيع عليها شريطة الإعلام بها حتى يتسنى العلم اليقينى والفعلى بما تتضمنه وتوقيع الموظف عليها عند التحاقه بالوظيفة العامة وهو ما نصت عليه المدونة المصرية فى مادتها الرابعة التى تؤكد اطلاع الموظف العام على موادها وموافقته عليها تحقيقا للمبدأ السابق وإمكانية المساءلة وتوقيع الاجراءات والعقوبات التأديبية وفقا لقوانين العمل. ومن أهم البنود فى الوثيقة الجديدة مسألة حسم التضارب فى المصالح بين «الوظيفة وبين أى عمل آخر يؤديه بالذات أو بالواسطة إذا كان من شأن ذلك الاضرار بواجبات الوظيفة» مادة (12)، وهو مبدأ تائه فى العمل العام ويؤدى إلى إرتباك شديد فى المحاسبة وإقراره فى وثيقة ملزمة يضمن وضع الأمور فى نصابها. كما تنص المادة (15) على «الامتناع عن مزاولة أى أعمال أو القيام بأى نشاط من شأنه أن يؤدى إلى نشوء تضارب حقيقى أو ظاهرى أو محتمل بين مصالحه الشخصية من جهة وبين مسئولياته الوظيفية..» هذا بالإضافة إلى كل ما يتعلق بكافة أشكال استغلال الوظيفة العامة لمكاسب خاصة والتى جاءت مفصلة فى المدونة الجديدة. كما راعت المدونة متغيرات التعامل مع تكنولوجيا المعلومات خاصة شبكة الإنترنت من أول الإستخدام لغرض العمل مرورا بمنع التحريض على العنف والكراهية وصولا إلى إساءة إستخدام الإنترنت فى إرسال مواد سرية أو غير مسموح بنشرها أو تحتوى على تهديد ومضايقات للأخرين. وفى ضمانات التطبيق تشير المدونة إلى أهمية الإستعانة بها فى إعداد تقارير كفاءة الاداء السنوى ونظم صرف المكافأت والحوافز. من شأن تلك المدونة أن تضع إطارا أو قل خطوطا فاصلة فى العلاقة بين الموظفين العموميين والجمهور وتذكر القائمين على خدمة المتعاملين مع الجهاز الإدارى أن هناك «إثابة وعقابا» وأن الأمر يمكن أن يوضع تحت السيطرة وليس بمنطق مسبق أنه لا فائدة من لوائح لا يلتفت إليها أحد فى التطبيق.. ولو كانت الدولة جادة فعليها التحقيق الجاد فى الشكاوى فور ورودها إلى الجهة المختصة وهى بالمناسبة وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإدارى وفقا لما ورد فى الوثيقة النهائية حتى لا تبقى بنود المدونة حبرا على ورق. الإيجابية فى التعامل مع تلك الخطوة تحمل وجهين، واحدا يخص الجهاز الإدارى نفسه بتعريف وتعليم الموظف أنه «خادم للجمهور» وأن الممارسات الحالية ليست هى الأصل ولكنها الاستثناء فى زمن غابت فيه المسئولية، والوجه الآخر هو إيجابية طالب الخدمة فى التصدى لسلبيات الممارسة دون تردد حتى تستقيم الأمور ونتجاوز تدريجيا عن منغصات التعامل مع الجهات الرسمية التى باتت نكدا يوميا للجميع. وكم أتمنى أن يلتفت الإعلام إلى مدونة السلوك الوظيفى ويجعل منها قاعدة جديدة للتعامل مع مقتضيات الوظيفة العامة والحقوق والواجبات بالإستفاضة فى التعريف بها ودعوة أصحاب القرار إلى مائدة الحوار وعقد حلقات نقاش يشارك فيها الجمهور العام بهدف ترسيخ ثقافة جديدة تتجاوز حدود الشكوى إلى العلاج التدريجى لواحدة من أمراض المجتمع المزمنة التى استوطنت لعقود طويلة وحان وقت أن نقول للجميع «انتبهوا» هناك حلول وإن كانت تحتاج إلى صبر ومثابرة وضمائر صادقة تغلب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية وهو بالتأكيد البداية فى مواجهة أنفسنا بحقائق الأزمات وأولها أن العلاج مسئولية جماعية وليس ارتكانا إلى المبدأ السائد أنه «لا فائدة»! لمزيد من مقالات عزت ابراهيم