يظل المسكن علامة على المكان ورمزا للحضارة والتواصل الإنسانى، ويتجلى ذلك فى بناء البيت النوبى الذى يعد أقرب البيوت لشكل البناء الفرعونى، بل يمكننا ان نعتبره ابنا له وعلامة على أن علاقة الإنسان المصرى الحالى بالإنسان المصرى القديم لم تنقطع وأن أثر العادات والأفكار وأساليب البناء لدى المصرى القديم مازال لها صدى حتى الان وإن كان خافتا واعتراه الغبار والتشويش، ونلاحظ أن علماء فن العمارة يربطون بين شكل البيت وعلاقات الجيرة بل وطبيعة البشر الذين يمثلون مكانا ما بالعمارة التى يسكنون فيها وهل هناك ما يمثل البيئة التى يعيشون فيها وله ترديد وأثر فى شكل العمارة وطرق البناء ام لا ؟ فلكما كان هناك تجانس بين العمارة والحياة والبشر كلما كان المجتمع أكثر صحة وتميزا وكلما حدث تباعد بين الأنسان والعمارة حدث الاغتراب واضطربت الهوية ونجد مثلا العالم الكبير حسن فتحى يدلل على تلك الافكار بما حدث للمهاجرين من أفريقيا إلى أمريكا و كيف تم تغريبهم فى عمارة مهترئة بامريكا وكيف عندما فكرت الحكومة ورجال الأعمال فى عمل مساكن حضرية لهم بعد تعرضهم لاشكال متعددة من التنكيل فتم إساكنهم فى الاحياء الفقيرة الرأسية ويوضح العالم الجليل حسن فتحى أن العمارة المشوهه تؤدى لامحالة إلى سلوكيات الثديات العليا فى حالة اليأس حيث يلوثون مأواهم وتفقد المبانى اناقتها وتزيد نسب الجرائم بشكل مروعويتجلى الاحساس باللامبالاة والغضب بما يخلق بيئة حاضنة لعصابات الشوارع وهكذا نجد أن هنا إرتباطا وثيقا بين جماعات الظلام والارهاب وبين البيئة العشوائية والفوضوية ولهذا فان عرضنا هنا لملامح العمارة المرتبطة بالبيئة هدفه ليس اجترار الماضى والتوقف عنده فقط بل ان يتم مراعاة البعد الاجتماعى والنفسى والحس الجمالى فى المساكن التى ستبنيها الدولة لمحدودى الدخل وللفقراء وللطبقة المتوسطة المصرية
التشكيل والزخارف فى البيت النوبى
أثرت على الفنان النوبى مراحل حضارية متداخلة، بل وربما متنافرة، ولكنه أعاد تشكيلها بشكل فنى، فنجد تأثيرات من الحضارة الفرعونية والمسيحية والإسلامية، فالهلال كشل زخرفى موجود بكثافة فى مداخل البيوت النوبية، كما نجد الصلبان المتناثرة على البوابات ومداخل البيوت، ويوجد التسماح الذى كان إلهًا معبودًا فى مصر الفرعونية، يرمز للخصوبة والفيضان، بل إن أكبر عدد محنط لحيوان فى الكرة الارضية سنجده لحيوان التمساح، والذى فكرت وزارة الثقافة فى عمل متحف خاص له عند متحف كوم أمبو، لا نعرف مصيره الآن؛ لأنه صار مهملا. ونجد التمساح محنطا فى بعض البيوت، أو مرسوما فى بيوت أخرى، وصار الآن يرمز لطرد الحسود والعين الشريرة، كما نجد عناصر زخرفية هندسية، أشهرها المثلثات التى تعد علامة مسجلة على طرق البناء النوبى، سواء فى النوبة المصرية أو النوبة السودانية، كما فى وادى حلفا، وتُعلق بعض الجرار الفخارية والأطباق على مداخل البيوت النوبية كما فى منطقة غرب سهيل التى مازالت محتفظة بطابعها النوبى منذ آلاف السنين، حيث هُجرت مع التعلية الأولى لخزان أسوان عام 1912، وتوجد زخاف هندسية ورسوم نباتية تجريدية تضفى جمالا على البيت من الخارج. أما التزيين الداخلى للبيوت، وهو ما تتميز به البيوت النوبية، فبه موضوعات محددة، مثلا عند المزيرة (مكان وضع الزير) نجد رسومًا لشخصيات تشرب، أو رسومًا لنهر النيل، وفى المندرة يمكن أن تجد رسوما (للأراجيد) وفى الحوش الكبير للبيت تجد رسوما معبرة عن الحياة اليومية النوبية. وفى القاهرة، فى الجميعات النوبية المختلفة، نجد الفنان الفطرى عادل فاروق يقوم بعمل رسومات، ولكن بالزيت وليست بالجير، على حوائط قاعات الجمعية (الجمعية هى مكان التقاء أسبوعى لأهل كل قرية) ومكان لتقبل العزاء أيضا، ولتباحث شئون أهل القرية، ومكان إعلان أماكن حفلات الزفاف المختلفة، حيث يقوم عادل فاروق برسم شاهد من الحياة النوبية على شكل جداريات كاملة بحجم الحائط، ونلاحظ أن الألوان المستخدمة فى زخرفة البيوت النوبية هى الأزرق والأبيض والوردى والبنفسجى، حيث يتم مزج هذه الألوان مع الجير، وبعض المواد الصمغية. أما فرشاة الفنان النوبى الفطرى فهى سيقان الجريد أو ريش الطيور أو عيدان السعف، ونلاحظ أن النخيل له استخدامات عديدة فى البيئة النوبية، مثل عمل سقف البيوت من الجريد، وكذلك تصنيع السرير النوبى من أحبال النخيل (العنجريب) كما ان المرأة النوبية تصنع الأطباق (الكرج) من خوص النخيل.
الأراجيد والسفين
الرسوم النوبية تتميز بأنها طقسية مستوحاة من الحضارات التى امتزجت مع روح الإنسان النوبى، وكذلك نجد أن الرقص النوبى طقسى مستوحى فى عمقه من طقوس الرقص فى المعابد، ولهذا نجد هذه الرقصات مرتبطة بالشعائر وبالأحداث المهمة فى حياة الإنسان، مثل الزواج والميلاد. والرقص فى حفلات الزواج له أشكال عديدة، أهمها الأراجيد، ويتكون من صفوف من الرجال يقابلها صفوف من النساء، تتحرك الصفوف المتشابكة على إيقاع الدفوف حركة جانبية، خطوة واحدة لليمين ثم خطوة لليسار، ويمكن للصفوف أن تتحرك للأمام، على أن ترجع الصفوف المقابلة للخلف، بالتزامن معها. أما السفين فهو الرقص الصوفى، وهو فى النهاية رقص طقسى هدفه توحد الروح مع الموسيقى؛ بهدف الوصول لحالة الوجد والفناء. والسفين صار الآن أكثر شعبية للأجيال الجديدة.
سوبك
التمساح رمز الفيضان والخصوبة، والمصرى القديم كان يرمز لبعض صفات الإله من خلال بعض الحيوانات وقدراتها الكبيرة، ولاشك أن التمساح شكل حالة خاصة عند المصرى القديم، حتى قيل إن ماء النيل يخرج من عرق التمساح، ولاحظ فى الغناء الشعبى المصرى (الورد كان شوك من عرق النبى فتح) واستمرت عبادته حتى العصر الرومانى، وتمركزت عبادة سوبك فى الفيوم منذ الأسرة الثانية عشر، وفى كوم أمبو، وشكل التمساح ثالوث كوم أمبو مع زوجته حتحور وابنة خونسو، ولهذا ظل فى المخيلة النوبية رمزا مقدسا يرسم مدخل البيوت، وصار يرمز لطرد العين الشريرة وعين الحسود، ويمكن الاستفادة من الزخارف النوبية فى عمل تطبيقات منها على الملابس وقطع الحلى والمجوهرات.