فى إطار المسابقة الدولية للمهرجان احتضن المسرح الكبير أمس الأول عرض الفيلم المصرى «باب الوداع»، الذى شهد حضورًا جماهيريًا كثيفًا. وليس من باب المبالغة أن نقول إن الفيلم سيؤرخ لمرحلة جديدة فى السينما المصرية، بمعنى أن فيلم مثل «المومياء» للمبدع شادى عبد السلام هو فيلم وحيد ومتفرد، حيث كان يحمل احتفاءً بلغة السينما وفن الصورة، ومن نفس هذه المنطقة انطلق المخرج كريم حنفى، ليقدم تجربته الروائية الأولى بعد عمل استمر 4 سنوات. الفيلم يحمل حالة خاصة من الشجن ويفسح مجالًا لإشكالية الحزن الذي يأكل الروح، عندما يستسلم له الإنسان، ينطلق من وجهة نظر فلسفية وأسئلة حول الموت والحياة، فعندما يصر الإنسان أن يترك الحياة خلفه ويستسلم لموت الروح، فكيف السبيل إلى التحرر؟ الجدة التى تعيش على ذكريات الزوج المحب الراحل، والابنة التى تركها زوجها مع ابنها الصغير وتعيش أسيرة الموت والخوف، حتى يصبح الولد ضحية للمخاوف والموت داخل هذا المنزل القديم، الصبى لا حلم له سوى التحليق بطائرة ورقية، وملاقاة حبيبته، ومنذ المشهد الأول قبل التترات وفى افتتاح الفيلم، long shot»_( امرأة تمسك بيد حفيدها وتحمل الورد، وفى طريقها لزيارة المقابر تلك الزيارة التى تبدو اعتيادية فى حياة المرأة والطفل)_ ونحن أمام عمل سينمائى مختلف أو لنكن أكثر دقة قطعة فنية، شديدة الثراء البصري.. كل شئ مرسوم فيها بحس تشكيلى عال، ساهمت الإضاءة والتصوير والموسيقى التصويرية وشريط الصوت بكل مؤثراته فى رسم تفاصيلها، إضافة إلى عين المخرج الذكية فى حركة الكاميرا المتمهلة، وكأنها تعكس تآكل الأرواح التى تترك نفسها للحزن، وذلك القطع المونتاجى المتأمل واختياراته الموفقة للممثلين والنجوم المشاركين فى العمل، بدءا من النجمة سلوى خطاب، والفنان الشاب أحمد مجدي أحمد علي، والحقوقية آمال عبد الهادي التى مثلت دور الجدة وكان اختيارها موفقًا جدًا لأنها بعيدة عن التوقعات والوجوه المألوفة التى تؤدي تلك المرحلة العمرية. وجرأة من كريم أن يستغنى عن الحوار كاملًا ويقدم فيلمه معتمدًا على تعبيرات الممثلين المشاركين، فيما عدا جملة حوارية تعبر عن الصوت الداخلي للطفل الذي صار شابًا يرغب في التحرر من مخاوف الأم التى صارت تكبل روحه هو الآخر، وهي (أنت يامن كنت هنا، ستكون في كل مكان)، ويبدو أن هذا الابن المطارد لا يستطيع أن يبدأ رحلته، لأنه يصارع شعورًا بالذنب تجاه أمه الحزينة التى عاشت سجينة حزنها وذبولها ومنزلها الخاوى الخالي من الدفء والروح. فيلم كريم حنفى «باب الوداع» يحمل تفاصيل شديدة الخصوصية عن عالم هؤلاء النسوة الحزانى (مشهد المقابر، الزيارات المتكرر لنساء من مختلف الأعمار من تبكى الزوج أو الابن أو الأب كيف يجلسون في وضعية التماثيل، القطع والتصوير ما بين الألوان والأبيض والأسود، المشاهد التى تبدو فيها الشوارع خاوية، فارغة حتى بعد وفاة الجدة اختيار مقاطع من القران بصوت أم كلثوم هو اختيار فنى غير معتاد ويدعم حالة هؤلاء النسوة) تعكس خواء الروح، أيضا التفاصيل الخاصة بالجدة وجلوسها إلى ركنها المفضل وأمامها «سبرتاية» القهوة وفنجانها، كيف تمشط شعرها، وكيف تلف المتساقط منه في ورق سيلوفان، وتستمع لأغانيها المفضلة بصوت عبدالوهاب وأسمهان «ياحبيبي تعالي الحقنى»، في حين أن الابنه التى لا تملك الخوف وتعيش وسط الأحلام والكوابيس من رحيل الابن مثلما رحل الزوج لا تقوم إلا بقص شعرها في تأكيد على أنوثتها التى تذبل يومًا بعد يوم. باب الوداع مرثية كريم حنفى للحزن والحنين، هو فيلم يثير الشجن ويحتاج لحالة خاصة من التلقي، وتركيز ذهنى، لتأمل تلك الحالة الفنية الثرية بصريا وفنيا كادر كادر ومشهد مشهد. فيلم كريم يؤكد عودة الروح للسينما المصرية ويستحق صناعة الاحتفاء بغض النظر عن الجوائز بدءً من المخرج وكاتب السياريو كريم حنفي خريج كلية الآداب قسم فلسفة ومؤسس مدرسة السينما في جمعية الجزويت، ومدير التصوير زكى عاطف والمونتاج لأمير أحمد والموسيقى لراجح داود، والصوت لعلاء الكاشف والتمثيل لسلوى خطاب وأحمد مجدي وآمال عبدالهادي وشمس لبيب.