هدأت العاصفة .. ووضعت المعارك الانتخابية الأمريكية أوزارها، ربما إيذانا ببدء العمل، وربما للإعداد لجولة جديدة من الحرب الجمهورية – الديمقراطية المشتعلة منذ عقود. ولكن بعد هدوء حدة الرياح، يوجد الكثير من التساؤلات التى تطرح نفسها حول حقيقة الأوضاع على الساحة السياسية الأمريكية. فعلى الرغم من أن الفوز الكاسح للجمهوريين سواء داخل الكونجرس أو على صعيد حكام الولايات لم يكن مفاجئا، فإن هذا يدفعنا للتساؤل عما إذا كان هذا النصر يعكس حقا تفضيل الشعب الأمريكى للمعسكر الجمهورى على منافسه الديمقراطى أم أنه مجرد تصويت «عقابي» للرئيس باراك أوباما؟
فهل سيطرة الجمهوريين على الكونجرس تمثل انتصارا حقيقيا لهم أم أنه يضعهم فى موقف صعب، وربما فى اختبار يحدد مصيرهم فى الانتخابات الرئاسية بعد عامين؟ وهل ستشكل قرارات الجمهوريين تهديدا لموقع أمريكا كقوة عظمي؟ بداية، استطلاعات الرأى العام الأمريكى بشكل عام خلال الأعوام الأخيرة تؤكد أن شعبية الجمهوريين عانت من تدهور كبير خلال النصف الأول من 2014، خاصة فى أعقاب أزمة سقف الدين الحكومى والتى تسببت فى شلل الأنشطة الحكومية ومنح إجازات بدون مرتب لأكثر من 800 ألف موظف حكومي، فى أزمة استمرت أكثر من أسبوعين نهاية 2013. ولم تتحسن هذه النسب خلال الأشهر اللاحقة، وهو ما يؤكد النظرية الجمهورية التى تقول «إن نتائج انتخابات التجديد النصفى إنما استفتاء على الأعوام الأخيرة من رئاسة أوباما»، فيبدو أن الأمريكيين وجدوا أن أسوأ عقوبة يمكن أن ينزلوها بالرئيس الديمقراطى هى تسليم الكونجرس بمجلسيه للمعسكر الجمهوري. وتشير بعض الإحصاءات إلى أن نسبة المشاركة الشعبية فى التصويت فى العديد من الولايات لم تتجاوز 38%، بل إن الاستطلاع الذى أجراه مركز «جالوب» كشف عن أن 40% من الناخبين يعتقدون أن الوضع سيظل كما هو، بغض النظر عن فوز أى من الحزبين فى المعركة الانتخابية، وهو ما يعكس حالة من الإحباط الشعبى العام، الأمر الذى يمكن تبريره بأن الحزبين الجمهورى والديمقراطى فشلا فى إفراز مرشحين يمثلون الطبقة العاملة. وفى الوقت الذى يترقب فيه الأمريكيون والعالم من خلفهم مواجهات ساخنة بين الكونجرس، الخاضع لسيطرة الجمهوريين، وحق "الفيتو" الذى سيحفظ ماء وجه أوباما، فإن الجميع يترقبون موقف الجمهوريين من القضايا الدولية الشائكة وما سيطالها من مواءمات سياسية إجبارية خلال الفترة المقبلة. وتؤكد التوقعات أن قضية العلاقات مع روسيا والملف النووى الإيرانى هما أول قضيتين ستقعان فريسة ل"المشرط" الجمهوري. ففيما يتعلق بالملف الإيراني، لا يخفى على أحد أن الجمهوريين قد ضاقوا ذرعا بتمديد المفاوضات النووية التى قاربت على العام، وهو ما يعتبرونه «تلاعبا» من جانب طهران وفشلا من جانب واشنطن، كما أن الموقف الجمهورى يتوافق إلى حد كبير مع الموقف الإسرائيلي، وبالتالى فإن إنزال عقوبات جديدة بطهران سيرضى اللوبى اليهودي، وبالتالى يعتبر نقطة تحسب للجمهوريين فى الانتخابات الرئاسية. أما فيما يتعلق بالموقف الأمريكى من روسيا، فعلى الرغم من العداء الواضح بين أوباما ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، فإن الرئيس الأمريكى تجنب حتى هذه اللحظة الدخول فى مواجهات مباشرة مع روسيا أو إبداء أى عداء صريح لموسكو، ولكن الوضع مختلف بالنسبة للمعسكر الجمهورى الذى يسعى لتشديد العقوبات على روسيا ولا يخشى الدخول فى مواجهة علنية معها بغض النظر عن العواقب والتى ستؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الأمريكي. أما فيما يتعلق بالقضية الأكثر أهمية الآن على الساحة الدولية، وتحديدا الحرب على داعش، فهناك توافق جمهوري- ديمقراطى نادر على ضرورة استمرار العمليات العسكرية لحين القضاء على العدو الكامن فى الشرق الأوسط قبل تمدده إلى داخل الأراضى الأمريكية، وهو ما سيعنى بالضرورة تكرار كارثة اعتداءات 11 سبتمبر 2001. ولكن الجمهوريين قد يذهبون لأبعد من ذلك، فهناك مؤشرات على أنهم لن يلتزموا الحذر – الذى طالما تمسك به أوباما - وربما يجازفون بإرسال قوات برية لمواجهة العدو فى عقر داره، حتى ينسب لهم الأمريكيون الفضل فى التصدى للإرهاب والقضاء عليه. الواقع يؤكد أن سيطرة الجمهوريين على الكونجرس إنما هو سلاح ذو حدين، فالديمقراطيون عازمون على وضع الجمهوريين فى الصدارة وسيحملونهم عواقب أى قرارات خاطئة خلال العامين المتبقيين من ولاية أوباما، وربما يدفع الجمهوريون ثمن هذا النصر غاليا خلال المعركة الكبرى على البيت الأبيض فى 2016، فأى خطأ يرتكبونه من اليوم وصاعدا سيحسب بكل تأكيد لصالح المعسكر الديمقراطي. ومما يؤكد هذا المعنى أيضا عدم وجود بارقة أمل لدى الجمهوريين أصلا فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، التى لا يبدو أنهم يملكون فيها مرشحا قويا يصلح لمنافسة الديمقراطية هيلارى كلينتون على منصب الرئاسة عام 2016، لأنهم يدركون أنه إذا كانت كلينتون سيئة، فإنها بالتأكيد لن تكون أسوأ من المرشحين الجمهوريين المتاحين حاليا مثل سارة بالين وجون ماكين وميت رومني. إذن، فقد كانت انتخابات التجديد النصفى الأخيرة «فخا» وقع فيه الجمهوريون، وهذا ما تؤكده الشواهد الحالية، التى تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وتفترض أن تصارع الجمهوريين والديمقراطيين على السلطة قد تحول إلى تقاسم غير معلن للسلطة يرتضى به الطرفان والأمريكيون أيضا : بيت أبيض ديمقراطي، وكونجرس جمهوري! ولعل هذا هو السبب وراء إبداء الطرفين رغبة سريعة فى التعاون بعد إعلان نتائج الانتخابات!