أعتقد أن الإنجاز الفكري للإمام محمد عبده(9481 5091) ينطوي علي جانب من الإجابة الجازمة عن السؤال بالإيجاب في مجال الفكر الديني والخطاب الديني علي السواء, فمحمد عبده معاصر لنا بكل معني الكلمة, وأفكاره التنويرية تنير حلكة الظلمة التي تحاول بعض الجماعات السياسية المنتسبة إلي الإسلام فرضها علينا, حسبنا أن نتذكر كلمات الرجل التي تقول: إن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية ومحا أثرها حتي لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم, فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا علي عقيدة أحد, ولا سيطرة علي إيمانه, وإن الرسول عليه السلام كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا, ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل, ولا أن يربط لا في الأرض, ولا في السماء, وهي كلمات لا معني لها سوي مدنية الدولة في الإسلام من جميع الوجوه, وأن هؤلاء الذين ينكرون مصطلح الدولة المدنية من منظور إسلامي إنما هم علي باطل, فما دام المسلمون أدري بشئون دنياهم, فحقهم أن يبحثوا عن نظام مدني للحكم, يديرون به شئون دنياهم التي تحقق مصالحهم, وهو المبدأ نفسه الذي بني عليه تلميذ الإمام علي عبد الرازق أساس فكرته في نقض( الخلافة) وجعل أي إحياء لها هو إحياء باسم دين هو الخير والعدل لنظام فاسد استبعد الناس طويلا بما شهده من شرور الظلمة من الخلفاء الذين اغتالوا مباديء العدل والتكافل وإعمال العقل الذي هو حجة الله علي خلقه. ويترتب علي ذلك أنه لا سلطة دينية للحكام أو حتي لعلماء الدين الذين لا يملكون إلا التذكير وإلابلاغ, بعيدا عن التفتيش في ضمائر الآخرين, أو المسارعة إلي تكفير المختلف الذي أصبح قاعدة في هذا الزمان, وهو الأمر الذي ظل محمد عبده ينكره, ويراه خروجا علي تقاليد الإسلام السمح, فمن كفر مسلما فقد باء بها, فيما يقول الحديث, وهو الأمر الذي دفع الإمام محمد عبده إلي الأخذ عن الإمام مالك قوله: إذا ورد قول من قائل, يحتمل الكفر من مائة وجه, ويحتمل الإيمان من وجه واحد, حمل علي الإيمان, ولا يجوز حمله علي الكفر, ولا شك أن هذا المنظور السمح يفتح الباب واسعا علي مصراعيه في مجالات حرية التفكير والإبداع والبحث العلمي, ولذلك لم يتردد الإمام محمد عبده في تشجيع الآداب والفنون ويحتفظ تاريخه الذي أعده تلميذه محمد رشيد رضا بخطاب التشجيع والمؤازرة المقرونة بالتهنئة إلي سليمان البستاني الذي فرغ من ترجمة إلياذة هيرميروس ونشرها سنة4091, وذلك قبل موته بعام واحد, ومن المؤكد أن اطلاع الإمام علي أفكار التنوير ومؤسساته التي عرفها في فرنسا هي التي تجاوبت مع عقلانيته الاعتزالية, فأخذ من الوافد الأجنبي والأصيل من تراثه ما أعاد إنتاجه, وما دفعه إلي أن يؤكد أن تحديث التعليم وتطوير مناهجه هو السبيل المضمون إلي التقدم, شريطة أن تكون المهمة الأولي للتعليم هي ترقية العقول وتربية الوعي النقدي وقدرة المساءلة لدي طلاب العلم صغارا وكبارا, ولم يكن الإمام يرفض شيئا قدر رفضه للتقليد, واتباع آراء السابقين دون تمحيصها وميزانها بميزان العقل الذي هو الأصل في المعرفة الدينية, ولذلك يؤكد الإمام أن للإسلام أصولا خمسة: الأول النظر العقلي لتحصيل الإيمان والثاني: تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض. والثالث: البعد عن التكفير, والرابع: الاعتبار بسنن الله في الخلق, والخامس: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.هذه المباديء لا تؤكد عقلانية الإمام الاعتزالية فحسب, وإنما تؤكد إيمانه بالنقل والعقل علي السواء, لكن مع إعطاء الأولوية للعقل الذي لا ينفي مباديء الشرع, بل يستخدم التأويل لتوضيح معني المتشابهات من الآيات بما يؤكد مباديء التوحيد والعدل, وما يقترن بها, وإذا كان التوحيد يرتبط بالتنزيه للخالق عن أن يتشبه بصفات المخلوق, وتأكيد كونه الواحد الأحد الذي هو خالق كل شيء, والذي لا يشبهه شيء, فإن العدل يصل المعني الديني بالدنيوي, مؤكدا ضرورة إقامة العدل الاجتماعي والسياسي بين الناس, والثورة علي الحاكم الظالم إذا حاد عن الحق والعدل, ألا يدعونا فكره إلي المقارنة بين مآسي العقل السلفي الوهابي الذي جاء ليحكمنا بأموال النفط والعقلانية الإسلامية التي تدعونا إلي الاعتبار بسنن الله في الخلق, وتقدير ما في الكون من جمال, بل تقدير ما يخلقه الفنان من لوحات ومنحوتات؟ ولا غرابة في أن أطرح هذا السؤال لأني أري وأسمع من يلعن النحت, ويضع اللوحات في دائرة الكفر وأقارن بين هذا الموقف وعقلانية الإمام التي كانت تبني الإيمان علي قانون السببية, مؤكدة أنه إذا انتفت العلة انتفي المعلول, وإذا ذهب السبب تغيرت النتيجة, وهذا عين ما ذهب إليه الإمام حين حدد الموقف الإسلامي من اللوحات والتماثيل, وذلك حين كان يشغل منصب مفتي الديار المصرية, ويسأل العقل الإسلامي المتفتح الذي انطوي عليه قائلا: ما حكم هذه الصور من اللوحات والتماثيل في الشريعة الإسلامية, وأجاب بسؤال: إذا كان القصد منها تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية, أو أوضاعهم الجسمانية, هل هذا حرام أو جائز أو مكروه؟ ويجيب الإمام في حسم: إن الراسم قد رسم, والفائدة محققة لا نزاع فيها, ومعني العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان. وأحسبه كان يوافق أستاذه جمال الدين الافغاني(8781 7981) علي ما ذهب إليه من ضرورة التمييز بين سلطتين: زمنية وروحية الأولي عمادها الدستور وأداتها القانون, والثانية مرجعها القرآن والسنة المطهرة ووسيلتها التأويل, وسندي في ذلك ما ذهب إليه الأفغاني من أن الهيئة البشرية لا يمكنها أن تستغني عن سلطتين: زمنية وروحية, وإن كانت السلطتان ترميان إلي غاية واحدة, أما السلطة الزمنية( المدنية) بحاكمها أو رئيسها, فإنما تستمد سلطتها من الأمة, فالأمة مصدر السلطات, لأجل قمع الشر, وصيانة حقوق العامة, والخاصة, وتوفير الراحة لمجموع الأمة بالسهر علي الأمن, وتوزيع العدالة المطلقة, أما السلطة الروحية( الدينية) فهي ما لكل دين من نفوذ معنوي علي أتباعه, وهي في بعض مواقفها أنفذ من قوة السلاطين ويقظة الشرطة وعدل الحاكم علي منصة قضائية, ذلك لأنه إذا تمكن الدين.. تفعل الروح فعلها وتؤازر سلطان القانون, وإذا سار الدين في غايته الشريفة حمدته السلطة الزمنية في الغاية منها, وهي العدل المطلق, حمدتها السلطة الروحية وشكرتها بلا ريب, ولا تتنازع هاتان السلطتان إلا إذا خرجتا من المحور الملازم لكل منهما, والموضوعة كل منهما لأجله.هذا الفهم لأهمية التمييز بين السلطتين لا أري فيه إلا فهما عمليا للفصل بين سلطة رجال الدين وعلمائه الروحية وسلطة الدولة المدنية التي تعتمد علي الدستور, وتحتكم إلي القانون, ويراقبها برلمان منتخب يتولي دور الرقابة والتشريع, ولذلك كان من الطبيعي أن يسهم جمال الدين الافغاني, ومعه تلميذه محمد عبده مع طليعة المجتمع المدني من المعممين والمطربشين في انتزاع المزيد من الحقوق الدستورية للأمة( المصرية) التي هي مصدر كل السلطات, وذلك في السياق الذي فرض إنشاء مجلس شوري النواب, عام6681 في عهد إسماعيل, قبل مجيء الأفغاني إلي مصر عام1781, وانخراطه في حركة الاستنارة الحرة التي قام بها نواب الأمة المصرية, داخل مجلس النواب الذي رأي فيه الأفغاني, وتلميذه محمد عبده السبب الموجب لنوال الحرية التي هي منبع التقدم والترقي والباعث الحقيقي علي بناء المساواة التي هي جوهر العدل والإنصاف. المزيد من مقالات جابر عصفور