أهلا يا أنا عيونى كلما غفوت، لا ترى غيرها. فهى الجميلة التى تتجسد في ذاكرتي لحكاية عشق لاأعرف له نهاية. ومن لمسة اليد الأولى صارت دقات قلبي همسا «أحبك. أحبك «، ومع كل دقة من القلب أتنفس تلك الحقيقة . وظل الأمر هكذا إلى اليوم الذى قالت لى فيه: « حين أفتقدك ؛ تزوجت غيرك، ورغم ذلك لم أكف عن التفكير فيك، لذلك حصلت على الطلاق بدلا من أن استسلم لبقية عمري لأشعر أن قلبى يعلو ويهبط على أمواج بحر الأيام دون أن أحيا معك». قالت ذلك في اللحظة التي رأيت فيها جميع البشر يحددون أيامهم بشروق الشمس وغروبها ، بينما كنت أعي تماما أني عشت عمري وأنا أحدد أيامي بمدى إقترابي منها لأرى الشفتين المكتنزتين اللاهثتين تملآن عيونى ؛ فأشربها بعيوني؛ لتشربني بعيونها ؛ولا نرتوى، فقط نسبح في أمواج عطش يقود إلى غضب، والغضب يقود إلى حلم الحياة معا ، وهو الحلم يدعو إلى الامتزاج، حيث لا أصبح أنا هو أنا؛ ولتبقى هي. ولا هى، بل نكون ذلك الكائن السابح فى فلك يتأرجح بين الميلاد والموت و نصنع من قلبينا قارباً - كقارب نوح – يحمينا من طوفان مكر الأيام وضباب محيط الكذب الكبير المسمى الكرة الأرضية، فنولد لحياة جديدة. _ 1_ هذا ما كتبته ذات نهار قديم حين كنت أخطو أولى خطواتى على أرض مطار كاتانيا بجزيرة صقلية الإيطالية . وكان الرحيل إلى صقلية يبدأ من الوصول إلى روما ؛ثم» إلى طائرة صغيرة تحملنا إلى جزيرة المافيا «صقلية» . ولأني لاأحب روما لذلك أهرب بسرعة كيلا أنزل إلى نافورة العشق التي تستقبلني فيها حمامة إجريت لها عملية جراحية لإستئصال إحدى ساقيها ، فصارت تقفز ، وكأنها أيام قلبي العرجاء ، فضلا عن أني أسبح في حزن بارد حين أكتشف أن روما تتوهج بإحترام جمال مبانيها، وعند ذلك أتذكر إفتقاد مدينة ميلادي الإسكندرية التي لوثت نفسها بهدم أجمل مبانيها القديمة فصارت غابة من الأسمنت، ولم تكتف بذلك بل قتلت حتى الأشجار التي نهانا عن قتلها صديقي أمل دنقل حين خاطب قيصر « أوصيك ألا تقطع الشجر « . ولذلك صارت روما مكروهة مني لأنها تذكرني بما نسيته مدينة ميلادي الإسكندرية ، التي بقيت في ذاكرتي لأملكها وحدى فى حدائق تذكارى النائمة ولأني أتجه إلى صقلية لذلك فلا مفر من أن أوقظ التذكار، لأفكر إشعاعات واقع تلك الجزيرة في خيال زماننا؛ حيث ترتبط صقلية بواقع أنها مقر عائلات المافيا. ثم أشكر خيالي لأني أنتبه إلى صورة عالم عربي هو شريف الإدريسي الذي أقام في تلك الجزيرة ليرسم أول خريطة للكرة الأرضية. هل كان الإدريسي يعلم أن هناك قرية صغيرة إسمها « سيراكوزا « تطل على البحر وسيختارها رجل القانون المصري الميلاد شريف بسيوني الأمريكي الجنسية؛ ليؤسس فيها معهدا للقانون الجنائي الدولي ، ويجتمع فيه قمم رجال القانون من مائة وأربعين دولية لبناقشوا أحوال العدل ؟ لا أعلم إن كان شريف الإدريسي علم بوجود سيراكوزا ام لا، لكني أعلم أن شريف بسيوني إمتلك حلما في أن يواصل مسيرة جده الذي كان رئيسا لمجلس الشيوخ المصري في العهد الملكي ، ثم صار إسما لشارع يمتد من ميدان طلعت حرب حتى فوهة ميدان التحرير ، وإنضم شريف إثناء سنوات دراسته للحرس الوطني فصار ضابطا إحتياطيا تولى مسئولية الدفاع عن حي معروف ، وتدريب شباب الجزائر على العمليات الفدائية ، ثم إختلف حسبما يروي مع واحد من قيادات ثورة يوليو ، فهرب إلى باريس ليدرس القانون ثم يهاجر إلى شيكاغو ليعمل مدرسا في كلية حقوق جامعة دي بول ، ولم ينس مصريته طوال الوقت ، ولم يلتفت أحد إلى الإستفادة من خبراته سوى السادات عندما بدأ عصره الأمريكي فأعاد له جواز سفره المصري ، وشجعه على العودة لبعض الوقت إلى مصر، لعله يستفيد من وجوده بالقارة الأمريكية . وطبعا كان نمو شريف بسيوني في دنيا صناعة القانون يتلامس سياسيا مع النقاط التي تقف فيها إسرائيل على قمة هدر قيمة العدل ، وتقف فيها مصر على قمة النداء بضرورة السلام ، وتقف فيها الولايات المتحدة مستفيدة من أي صراع ينشب في أي موقع من بقاع الأرض . وكانت هناك شجرة بعض جذورها ملوث ، وبعض من جذورها حقيقي ، تسمى شجرة « حقوق الإنسان « ، وكان شريف بسيوني أحد عشاق تلك الشجرة ، دائم الإستظلال بفروعها ، ويحاول إرواءها بما يملك من أفكار . وبطبيعة الحال ترتبط كلمة « حقوق الإنسان « بكلمة أخرى هي «العدل «، وكل من وافع الكلمتين يبدو مطاطا ، يمكن أن تشده واشنطون من ناحية ، وتشده دول أخرى من الجهة المضادة ، فلا يستقر معنى واضح لأي من الكلمتين « العدل « وحقوق الإنسان ». وبسحر الكلمتين يؤسس شريف بسيوني معهد القانون الجنائي الدولي التابع للجمعية الدولية للقانون والتي تشترك فيها قرابة المائة وأربعين دولة . وقد يبدو هذا الأمر له لمسة من الهيبة لمن به يسمعه أو يقرأه عنه ، لكن بالنسبة لي فمازالت فكرة العدالة غير موجودة بشكل مقبول بين سكان الكرة الارضية ، مهما ارتدى بعض مثقفيها ملابس أنيقة ، وقاموا بحشو أفواه بكلمات ضخمة ذات رنين حالم ، فواقع اليوم لسكان الأرض يقول أن العدل صار واجهة يتم التجارة بها دون إيمان عميق، ومعناه مغلوط من بلد لآخر ، بل من طائفة لأخرى ، فكل يحسب العدل بميزان مغشوش لم يتفق سكان الأرض على ضبطه بحيث لا يخسر حق أحد أو يتجاوز في حق بلد من أجل بلد آخر. ومن الغريب أن الحفاظ على « الظلم » و«الإهدار لآدمية شعوب » صار تجارة تتفنن في ينيها مراكز تفكير تعمل لحساب شركات عملاقة ، تعبئ خزائنها من هدر جثث من لا ينتبه إلى أنه مضحوك عليه ، معبأ بكراهية غيره ، دون إلتفات لألاعيب الشركات والبنوك وأباطرة صناعة قتل الأحلام . _ 2_ وما أحكيه الآن وقعت أحداثه في ديسمبر 1985 ، ومن العجيب أن من قابلته على الطائرة إعلامي كبير إندهشت لرؤيته ، وبدأ يهمس في أذني ما اثار إحتقاني وتوتري ، حكي لي أنه يصطحب معه حقيبتين ممتلئتين بالملابس الداخلية القطنية المصرية الصناعة ، فقد علم أن تلك الملابس لها سوق في سيراكوزا ، وحين لاحظ إندهاشي الشديد وأنا أسأله « هل ستقف في الشارع لتعرضها للبيع وأنت على درجة وكيل وزراة ؟ « أجابني ضاحكا « أنا أشبه الرئيس السادات الذي رحل عن عالمنا منذ أربع سنوات وعندما أقف في أي سوق أنادي « أنا من بلد السادات « فيأتي لي الزبائن ليشتروا .وعندما لاحظ فزعي قال لي « ألا تعلم أن السفر تجارة وشطارة ؟ « . وتجنبته طوال الرحلة ، لكنه أصر على أن نركب معا الأتوبيس الموصل من المطار إلى الفندق ، لنلتقي بفاقد للعقل يلعن كل سكان سيراكوزا ، ويلعن معهم الحكومة الإيطالية التي لم تأذن له بالزواج من الحلوة التي أحبها ، وأذنت لها عائلتها أن تلتحق بالدير لتخنق أنوثتها ، وصارت حياته بلا معنى بعد إفتقاده للحبيبة . وكان يشرح ذلك بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية ، وسألته إن كان يحمل صورة للحبيبة ؟ فأجابني « نعم .. هل يعقل أن يسير عاشقا دون جواز سفره إلى الحياة ؟ « ، وأخرج صورة من جيبه لأجدها صورة نجمة السينما الإيطالية صوفيا لورين وبجانبها الممثلة الإيطالية الشهيرة « أنا مانياني « ، وكانت الصورة من فيلم « إمرأتان « الذي لعبت دور البطولة فيه أنوثة صوفيا لورين في بدايات إشراقاتها ، ومعها آنا مانياني التي كانت تودع أنوثتها بذلك الفيلم المأخوذ عن رواية لمن عشق تفاصيل أي عناق بين أي رجل وأي إمرأة وهو ألبرتو مورافيا « .أيقنت أن الرجل فاقد للعقل . ولأني زرت كثيرا من المصحات النفسية ، وأعلم تفاصيل كثيرة عن كيفية التعامل مع من تغرب عقولهم عنهم، حيث يمكن لقوة أربعة رجال أن تحصر وتحاصر أي فاقد للعقل ، لذلك نبهت سائق الأتوبس وإثنين من المصريين الذين كانوا معنا في نفس الأتوبيس لنصل إلى الفندق دون أن يبدأ المجنون في الإعتداء على أحد. وتعجبت حين إستطاع الإعلامي إقناع المجنون بأن يأخذ البالطو الأنيق الذي يرتديه المجنون مقابل ثلاث فانلات مصرية الصناعة كان يحتفظ بها ضمن الحقيبة الصغيرة التي يحملها « !! « . أيقنت يومها أن من يمثلون الإعلام في مصر المحروسة يمكنهم أن يصبحوا تجار خضروات على عربات الكارو . وقد دهشت عندما أعلن لي ذلك الإعلامي أنه قام بتأييد كل الحكومات المتتابعة على مصر ، ولم يقترب منه أي سيف لأي مقصلة إعلامية عبر السنوات وكم كانت المقاصل كثيرة منذ عام 1954 ، ثم عام 1972. ولم ينجو منها من المحترمين سوى قلة قليلة . وهاهو الاتوبيس يصل « فيلا بوليتي» ، وهي الفندق الذي إستأجره شريف بسيوني ليكون مقرا لنزول أعضاء أي مؤتمر من مؤتمرات معهد القانون الجنائي الدولي ، والفيلا عبارة قصر مقام على ربوة تطل على البحر ، وبجانب الربوة ما يشبه البئر العريض بقطر عشرة أمتار وبعمق يصل إلى العشرين مترا . وفي قاع هذا البئر الجاف تورق عدة أشجار من اليوسفندي . وحين أسأل عمن زرع تلك الأشجار ، قيل لي: زرعها هم العبيد الذين حبسهم أحد حكام سيراكوزا وأغلب الظن أنه حاكم عثماني ممن إدعو أنهم أبناء الخلافة الإسلامية ، وكان يرقب العبيد « الكفار « الذين ينفذون حكم « السماء « بزراعة « الجنة « على الأرض إرضاء لهذا المعتوه الذي صور أمثاله الروائي إبن جزيرة كريت كازينتزاكس في رواياته ، حيث قرأنا عن الوالي العثماني وكيف كان يجلس في قصره ليشرب النارجيلة والخمر وينتقي من السبايا من تحلو له ، ويندهش من جمال الغلمان مرددا بأن الخلافة العثمانية هي التي ستحقق مشروع الجنة على الأرض . وعلى بعد خطوات من «فيلا بولتي» يوجد معهد القانون الجنائي الدولي حيث يجتمع الدارسون في دورات وحلقات نقاشية عن القانون الدولي . وما أن ظهر شريف بسيوني أمامي حتى أخذته جانبا لأقول له « إن كان الحضور كلهم من نوعية ذلك الإعلامي القادم للتجارة بالملابس الداخلية ، فلسوف أرحل في الصباح « . ورأيت شريف بسيوني يتقدم من ذلك الإعلامي ليخبره أنه شخص غير مرغوب فيه. وعليه أن يستعد للعودة إلى القاهرة بدلا من أن يقوم هو بإخبار السفارة بما فعل « . وبكي الإعلامي بنهنهة عالية الصوت ، ثم إنتبهنا على صراخ بعض سيدات ورجال قالوا أنهم عائلة المجنون الذي كان يركب معنا الأتوبيس ، وهم قد إقتحموا الفندق بحثا عمن قايض إبنهم بالبالطو الغالي الثمن مقابل عدة فانلات داخلية . وهنا تقدم الإعلامي ليرجع لهم البالطو الفاره ويأخذ منهم الفانلات . ثم راح يوجه لي اللوم . فلولاي لاحتفظ بالبالطو ولتوجه في الصباح ليبيع الملابس الداخلية وليكسب عدة آلاف من الليرات الإيطالية ، ثم يقضي بضعة أيام في ربوع إيطاليا . لكنه مضطر للرحيل من سيراكوزا بعد أن هدده شريف بسيوني بأنه سيطلب من السفارة في روما ان تقوم بترحيله . أخبرت شريف بسيوني أن ما فعله ذلك الإعلامي قد يكون هو مضمون حلقات النقاش عن حقوق الإنسان العربي ، الذي يمارس بالفهلوة بعضا من العبث مع الأفكار الكبيرة ، فضحك شريف كثيرا ، ليخبرني أن خطأ واحدا لا يمكن أن ينعكس على قيمة القمم من العقول الكبيرة التي تحضر هذه الندوات. وبالفعل صدق شريف بسيوني فقد كانت العقول كلها ذات مقام رفيع ، و كانت الوفود العربية تتزين بقائمة الكبار من رجال العدالة، من أقصى المحيط إلى قاع الفرات مرورا بالجزء العربي من أفريقيا . ورغم ذلك كنت أضحك كثيرا من كلمات بعض من رؤساء الوفود العربية ، حيث يمكن أن تسمع عن حقوق الإنسان في الدساتير العربية ما يجعلك لا تصدق أذنيك ، فهي دساتير توحي بأن العروبة تعيش الجنة على الأرض، متجاهلين أن صيحات الصراخ ممن يختلفون مع حكوماتهم يمكن أن تصعق آذان الكون ، لكن قلب الكون المعاصر لا يبكي إعلاميا وصحفيا وسياسيا إلا على الجواسيس الذين علمتهم اجهزة مخابرات الغرب كيف ينكلون بمجتمعاتهم عبر إدعاء الدفاع عن الحريات. ولم يكن أحد يلتفت أيامها إلى مجازر إسرائيل في الأراضي الفلسطينية ، أو تعليق البشر مشنوقين في ميادين طهران بإسم الثورة ، ولا في إلقاء قنابل الخردل على الأكراد بأوامر من صدام حسين ، وطبعا لم يتذكر أحد مذابح صبرا وشاتيلا التي قام بها الجيش الإسرائيلي بقيادة شارون ، ولم يتوقف أحد أمام إعترافات أستاذ بجامعة دمشق منتدب لإحدى جامعات الخليج الذي لم يدخل دمشق منذ سنوات ، و لا يجرؤ على دخول مطار دمشق ومعه أية مراجع عن القانون ، حيث يفرضون في المطار ضرورة مراجعة أي كتاب مع أي أستاذ قانون، ثم يختمون صفحات الكتاب صفحة صفحة بخاتم» مصرح بالدخول»، و قد يطمس الخاتم بعضا من الكلمات . ومن المناقشات رأيت تحت سطحها نهرا من الخجل يسري بين الوفود ، خصوصا عندما أعلن أحد أساتذة القانون بجامعة المنصورة أظنه الأستاذ الدكتور الشافعي عن أم تاه أبنها المصري في الحرب العراقيةالإيرانية ، فأقنعوها أن ترسل إلى سكرتير الأمم المتحدة أيامها وهو بيريز دي كويار، طالبة منه أن تعرف مصير إبنها ، فأرسل لها مكتب السكرتير العام رسالة يطمئنها بأن الأمم المتحدة ستبذل كل الجهد من أجل تحديد مصير إبنها، فأطلقت الأم زغرودة بعد تسلم الخطاب «!!». _ 3_ إذا كانت بعض الوقائع التي حدثت في أول حلقة نقاش لحقوق الإنسان العربي قد غلب عليها طابع ساخر إلا أن هذا لم يمنع العقول الكبيرة المحتشدة في قاعات معهد القانون الجنائي الدولي من الوصول إلى حقائق أساسية ، سجلت فيها بمنتهى الدقة ضرورة أن يرفع الغرب عن شعوبنا طوفان الإستهلاك ، وأن يكون ندا في تعاملاته معنا ، فإذا كانت الولايات المتحدة وبلدان الغرب قد أدمنت إمتصاص الثروة العربية ، ومقايضتها لنا بما يمكن أن نخجل منه ، فعلينا نحن أيضا أن نطالب بتقرير حق الشعوب في التحرر من طوفان التوكيلات التي تحول أصحابها إلى نماذج مقلدة لما جرى في أمريكا اللاتينية . وإذا كان العرب جميعا يكرهون على سبيل المثال صدام حسين الذي قدم طلبا للولايات المتحدة كي يكون خليفة لها بديلا عن شاه إيران ، واستقبل وزير دفاع أمريكا ووقع معه عقود إستيراد أسلحة يقتل بها شعبه ، فإيران أيضا وحسب كلمات ووقائع رواها القادمون من فلسطين المحتلة قامت بتصنيع مفاتيح الجنة في بعض من مستعمرات إسرائيل ، وتلك المفاتيح البلاستيكية قام بتوزيعها الإمام الخوميني على من يقاتلون العراقيين على خط المواجه . وما لم ينتبه العرب إلى ذلك فلا نجاة لهم إلا خارج التاريخ بأن تضم صفحاته كلمات عن أقوام عاشت على الإستهلاك فتمت إبادتها لعجزهم عن فهم حقائق الواقع . وفي ليلة من ليالي هذا المؤتمر سمعنا ما يجري في الأرض الفلسطينية من مآسى ، وكان أغرب ما سمعته هو ما رواه أبناء مدينة الناصرة الذين كشفوا أن حركة حماس تم إنشاؤها باتفاق إسرائيلي لتكون شوكة في ظهر ياسر عرفات . _4 _ ظللت أشارك كمراقب في تلك الندوات لمدة خمس سنوات وتوصل المجتمعون إلى صيغة لوثيقة حقوق الإنسان العربي . وطبعا كانت كلماتها فضفاضة ، ولا تستطيع أن تسير على أرض الواقع المخترق بالتبعية لما يأتي من ضعف الداخل وسيطرة الخارج على كثير من العقول الحاكمة . ثم أطلت فكرة مبدعة لشريف بسيوني عن ضرورة تأسيس محكمة جنائية دولية ، وصارت وثائقها محفوظة في الأمم المتحدة بإسم « قانون بسيوني « . وبعد سنوات من الكر والفر بين دهاقين القانونيين ، خرجت المحكمة الجنائية الدولية لتكون سيفا مسلطا على عنق من أساءوا إستخدام السلطة . ولكنها لم تتحدث أبدا عن جرائم الدول الكبرى ، بل إن الولايات المتحدة بجلالة قدرها رفضت التوقيع على وثيقة تأسيس تلك المحكمة لعلمها بأن قادتها يمكن أن يقفوا أمامها ذات يوم بتهمة تدمير العراق على سبيل المثال لا الحصر , ولكن الذي وقف امامها هو بعض من حكام يوغسلافيا التي صارت دولة مندثرة ، وكان شريف بسيوني رئيس لجنة شكلتها الأمم المتحدة لتقصي حقائق عن المذابح التي وقعت هناك . وقد سقط شريف بأزمة قلبية حادة بعد أن رآى بعضا من الصبية يلعبون الكرة برؤوس آدمية قطعوها ممن توهموا أنهم أعداء رغم أنهم كانوا قبل سنوات أبناء بلد واحد . _ 5_ قررت الهرب من كل مشاهد العنف الذي تحمله وقائع المناقشات في سيراكوزا لأعود إلى روما ، حالما بلقاء سيدة حلمي المكسور ، والتي كانت كل لمسة يد بيننا تحمل وعدا في ان نهدي البشرية أبناء يمكن أن يعملوا من أجل أن يسمع البشر همس انهيار الإمبراطورية الأمريكية؛ قائدة ثقافة الإستهلاك ، بعد أن شاهد جيلي ترنح إمبراطورية الحزب الماركسى فى روسيا تحت ضربات الفودكا في رأس رئيسها المخلوع يلتسن . وصارت الآن بلدا يحاول الهرب من أسر إمبراطورية تكوين ثروات لأصحاب المليارات ، لتتبع مع بوتن أسلوب إنتاج يضمن قوة للدولة التي لا ترضخ لمحاولات التمزق؛ هذا التمزق الذي تحاول أوربا أن تفرضه روسيا؛ .فاكتناز الأفراد لثروات بعيدا عن ثراء الدولة التي ينتمون إليها يمكن أن يملأ مطاراتها بطائرات خاصة لهؤلاء الآثرياء ، ثم تزدحم حواف المدن بأكشاك عشوائية ، لأن من يمتلكون كل مفاصل الثروة، الجاه، المال، العبيد، قوة النيران؛ إرادات الرجال، أحلام النساء. هؤلاء يصبهم ضعف التشرذم، والسباحة في أوهام أن ترسل السماء جماعات تصنع عدلا مزيفا كما حدث في مصر المحروسة ، لولا إنتباه الروح السرية التي ألقاها النيل في أعماقنا فأسقطنا هذا الوهم . ولكنا لم نملك في الواقع اليومي إرادة كإرادة المقاتلين الذين حرروا سيناء ذات نهار قديم ويحررونها حاليا من جديد . _ 6_ ولا أدري لماذا تذكرت لحظة وقوفي أمام شاطئ سيراكوزا لأطل على أمواج البحر لأهمس لنفسي أن الشريف الإدريسي _ أول من رسم خريطة للكرة الأرضية _ رحل من هنا إلى أسبانيا أولا ، وهي التي كانت عربية ذات نهار قديم ، لكن سادتها في ذلك الزمن لم ينتبهوا إلى الفائدة من إدارة الثروة لتكون حياة للرجال وأحلاماً طيبة للنساء ولا عبيد ولا اكتناز لزوائد من الذهب والفضة، فهل نتذكر ذلك أم أننا سنظل أسرى للسكر بخمر الاكتناز؛ فنحاصر أنفسنا بشبع الأغنياء وجوع الفقراء وإفتقاد الأمل من عيون الشباب، ثم تصير أجسادنا مقابر للسلاح الذي يتم إنتاجه بثرواتنا ، ومن بعد ذلك نستسلم للموت الحضارى. _7_ لا أدري من أي جاء إلى خيالي صوت آخر إمرأة عاشت كزوجة لحاكم أندلسي ، كان اسمها « أم عاصم» ، وكأنها خرجت من بطن التاريخ لتهمس في أذني «غفوت فرأيت ما اشتهيت. «صحوت فرأيت ما رغبت. وتجسدت فى خيالى صورة أم عاصم وهى تحكى عن روعة عاشقها عبد العزيز بن موسى بن نصير. ورأيتها غارقة في دموعها ، فسألتها: وما سر بكائك أيتها الأميرة؟ قالت: أحببت عبد العزيز لأنه فارس فى التوازن بين كل أمور حياته. وأنتم أحفاده لا تعرفون التوازن ولذلك ضاعت سيطرتكم على واقعكم. قلت لأم عاصم: وأين امرأة خيالى التى أراها دائماً تحت جفونى؟ قالت: رحلت فى أسمال بالية لأنك واحد الذين يعرفون ويعجزون عن تحقيق ما يعرفون على أرض الواقع. قلت: ليس لى إلا أن أبلغك كلمات الشوق إليها. فتركتني دون تحية لأغرق في بحر نوم رمادي.