عندما فتح أمير تنظيم «داعش» سوق المبايعات، عقب إعلان دولته المزعومة، وجدنا حركات وتنظيمات من دول مختلفة، سارعت لتقديم فروض الولاء والطاعة، إما طمعا أو خوفا. ولم نجد تنظيما معروفا فى مصر، ممن يتم توظيفهم من قبل الإخوان، يقدم على خطوة من هذا النوع، ليس لأن الارتباط ب «داعش» لن يكون مفيدا أو مجديا، لكن لأن العواقب الأمنية والسياسية له ستكون باهظة. الدليل على هذه النتيجة، ما حدث أمس الأول (الثلاثاء)، حيث استيقظ المصريون، على بيان للتنظيم الإرهابى المعروف ب «أنصار بيت المقدس»، أعلن فيه أصحابه مبايعتهم ل «داعش». وهو ما وجد فيه التنظيم الأخير فرصة، لتحقيق حلم الاقتراب من مصر، التى تحتل أهمية فائقة فى حساباته الخفية والإستراتيجية، ويسعى للاقتراب منها منذ فترة بكل السبل، عبر أذرعه المختلفة، لكنه فشل. لذلك حاول استثمار مبايعة «بيت المقدس». ورد ما يسمى ب «أبو مصعب المقدسي»، أحد قيادات «داعش»، على البيان بآخر أغلظ منه، ثمن فيه البيعة الجديدة، وناشد من وصفهم ب «مجاهدى مصر» بتطوير معركتهم والنيل من جميع مؤسسات الدولة. هنا تدارك «بيت المقدس» حجم الخطأ الذى وقع فيه، وأعلن تبرئه على الفور من البيان الأول، ونفى أى صلة به من قريب أو بعيد، لأن الارتباط أو البيعة تعنى ببساطة، الربط بشكل مباشر بين جماعة الإخوان وتنظيم «داعش»، الذى تقوم قوى إقليمية ودولية كبيرة بمحاربته بضراوة ظاهرة، بصفته تنظيما إرهابيا. وقد قطعت تقارير كثيرة أن «بيت المقدس» أحد أذرع الإخوان. بالتالي، حتما سوف تتأثر صورة الجماعة فى الغرب، فلا تزال بعض دوله تستمع إليها، وتحاول بخبث أو براءة، إدراجها ضمن المشهد السياسى فى مصر، ناقدة ومتهكمة من حجم الإدانات القضائية التى صدرت ضد عدد من قياداتها. لذلك كان من الضرورى أن يتنصل «بيت المقدس» من البيان، حماية للتنظيم الدولى للإخوان، وحبا فى أهدافه العرجاء، وليس كرها فى «داعش». من جهة ثانية، أكد بيان المبايعة الأول، أن مصر صائبة فى رؤيتها الأمنية، حيث تصر على التعامل مع جميع التنظيمات والحركات الإرهابية فى المنطقة دفعة واحدة، دون تفرقة بين «داعش» فى العراق وسوريا، أو «بيت المقدس» التى لا تزال بقاياها تتحرك على الأرض فى مصر، أو تنظيم «أنصار الشريعة» فى ليبيا. الأمر الذى تتحفظ عليه بعض القوى الدولية، التى تقود الحرب ضد الدولة الإسلامية، وتصمم على التعامل مع الإرهاب بالقطعة. وقد أنقذ سحب البيان أو التنصل من المبايعة الملغومة، قيادات الإخوان، وحال دون إحراج الجماعة أمام عدد من حلفائها فى الغرب. والأهم أنه خفف من وطأة المأزق الذى كانت ستدخله الولاياتالمتحدة، باعتبارها الدولة التى تحرك دفة الأمور يمينا ويسارا، وعصمها (مؤقتا) من التسليم بالرؤية المصرية الشاملة. من جهة ثالثة، أراد بيان التنصل، أن يحجب عن حماس سيول من الانتقادات كانت فى انتظارها. فتنظيم «بيت المقدس» نشأ فى فلسطين، وله امتدادات قوية فى غزة، وتربطه علاقة شديدة الخصوصية مع قيادات الحركة، المسؤولة عن تهريب عناصره إلى سيناء، ومده بكثير من الأسلحة، وتحديد الأهداف. والمبايعة كانت ستجعل حماس فى مرمى نيران جديدة، تضعها فى موقف غاية فى الحرج مع أصدقائها، لأنها ربما تصنف مع «داعش» فى كفة واحدة، فتصيبها رصاصات سياسية تستهدف الأولى أصلا. وقد يكون فى سحب البيان فائدة كبيرة، تبعدها إلى حين، عن التورط فى مستنقع «داعش»، الذى من المرجح أن تنزلق إليه كثير من الحركات الإسلامية مستقبلا، التى تدعى المرونة والاعتدال حاليا. الارتباك الذى بدا عليه تنظيم «بيت المقدس»، كشف عن حقيقتين مهمتين. الأولي، أنه وأمثاله، من نوعية «أجناد مصر» ستار تستخدمه جماعة الإخوان، فى معركتها مع الدولة، وأثبت أيضا أنه غير بعيد عن بعض أجهزة المخابرات العالمية، التى تحرك هؤلاء جميعا لخدمة أغراضها البغيضة. والثانية، أن أجهزة الأمن تمكنت من اصطياد عدد كبير من قيادات وكوادر هذا التنظيم، وهو ما أظهره مرتبكا ومترنحا، ولا يستطيع اتخاذ القرار الصحيح. فالمبايعة والتراجع كشفتا عن حجم الاهتزاز، الذى أصاب هياكله الداخلية، وأن الضربات الأمنية التى تعرض لها كانت مفجعة، عكس ما يحاول توصيله للناس. فى المقابل، لا يدقق البعض فى تصوراتهم وتصريحاتهم. ففور صدور بيان المبايعة، نفى عبد الفتاح حرحور محافظ شمال سيناء، وجود «داعش»، أو أى أثر لكوادره فى سيناء، بينما كانت أجهزة الأمن قبل يومين أعلنت عن كشف خلايا إرهابية، بينها منتمون لهذا التنظيم. ربما يكون السيد المحافظ محقا، لأن المسألة اتخذت شكل «فوبيا» لدى البعض، وأراد أن يطمئن الناس باستقرار الأمور، وأنها تحت السيطرة. كما أن ظهور عنصر أو اثنين أو حتى عشرة، لا يعنى إطلاقا أن «داعش» بدأ ينشط فى مصر، وتمكن من الوصول إليها. المشكلة الحقيقية، أن من ينفون أو يؤكدون وصول فلول «داعش»، تحكمهم حسابات سياسية أكثر منها أمنية، وجرى توظيف بيانى «بيت المقدس»، لجهة المبايعة أو نفيها، لهذا الهدف. لذلك من الواجب أن يتم وضع النقاط على وأسفل الحروف، بلا مبالغة أو تهوين. وإذا كانت المبايعة وسحبها لعنة على «بيت المقدس» وحلفائه، ولغما كاد أن ينفجر فى وجوههم، نتمنى أن تكون جرس إنذار لمن يهمهم الأمر، حتى لا نفاجأ بظهور شبح يزعم أنه يحمل توكيل «داعش» فى مصر. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل