لم تكن حادثة الاعتداء على الأطفال فى دار أيتام »المدينةالمنورة« الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، فقبل ثلاثة أشهر كانت حادثة تعذيب الأطفال فى إحدى دور الرعاية بالهرم، وقبلها انفجرت قضية تعرض أطفال بإحدى الدور بمنطقة السيدة زينب للتعذيب على يد مشرفيهم، من خلال الضرب والحرق. فكم من المآسى والسلبيات التى تحدث بدور الأيتام والتى تطالعنا بها الصحف، ناهيك عن أن ما يتم إعلانه والكشف عنه هو قليل من كثير لا يعلم أحد عنه شيئا. وهو ما دفع الجميع للتساؤل: ما هو الوجه الأمثل لكفالة الأيتام؟ ومتى يعود المجتمع إلى فطرته السليمة ويتربى اليتيم فى أحضان ذويه؟
التجاوزات التى حدثت ببعض دور الأيتام مؤخرا دفعت الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، إلى إطلاق مبادرة، دعا خلالها إلى إكرام اليتيم مع أهله وذويه باعتبار ذلك أولى من دُور الأيتام. وذلك انطلاقا من الرعاية الخاصة التى أولاها الإسلام للأيتام والتى عبر عنها القرآن الكريم فى قوله تعالى فى سورة البقرة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وعن ملامح تلك المبادرة المجتمعية يقول الدكتور محمد مختار جمعة، إن أفضل وسيلة لإكرام اليتيم هو كفالته والإحسان إليه وهو بين أهله وذويه: أمه، أو أخته، أو جدته، أو عمته، أو خالته، أو عمه، أو خاله. ذلك أن فصل اليتيم عن أسرته له آثار نفسية واجتماعية سيئة على اليتيم وعلى أسرته معًا ، حيث تشعر الأسرة بالعجز والإحباط، وشيء من العار أحيانًا، لبعد ابنها أو ابنتها عنها نتيجة عدم قدرتها على الإنفاق عليه أو عليها، كما أن كثيرًا من هؤلاء الأطفال لا يستطيعون بعد خروجهم من دُور الأيتام الانسجام مع الأسرة وضوابطها وطريقة حياتها، ويكون مصير بعضهم الانضمام إلى من يعرفون بأطفال الشوارع. وأوضح أنه بدراسة علمية عملية لإحدى الدُور التى كانت تتبع الأوقاف، تبين أن متوسط تكلفة إقامة اليتيم الواحد تزيد على ألفى جنيه، لأن عدد المشرفين والعمال والإداريين والمنتفعين، كان أكثر من عدد الأيتام واليتيمات، ولو أننا أنفقنا ربع هذا المبلغ على اليتيم وأسرته معًا لتحسن حال الأسرة كلها، مما جعلنا نأخذ قرارًا بالإجماع على إلحاق هؤلاء الأيتام بأسرهم ورعايتهم ماديًا وتعليميًا، وهم بين أهليهم وذويهم. استغلال اليتيم مبادرة وزير الأوقاف ثمنها الشيخ محمود عاشور، عضو مجمع البحوث الإسلامية، وكيل الأزهر الأسبق، وقال: إن كفالة اليتيم بين ذويه هى الأولى وهى الأصل مادام أهله وذووه معلومين، كما أن رعاية اليتيم بين أهله تجنبه الاغتراب عن أسرته الذى تفرضه دور الأيتام، وتساعد على اللحمة والتكافل بين أبناء المجتمع ككل. على أن يقوم الأهل بالرعاية والتربية، ويقوم أهل الفضل والسعة بدعمهم ماليا وسداد احتياجات اليتيم المختلفة من غذاء ودواء وكسوة وسكن ونحوها، فكفالة اليتيم لا تقتصر على الدعم المالى فقط، بل بالسؤال والمتابعة أثناء الدراسة والعيادة فى المرض، وتتبع مشكلاتهم ومشاركة اليتامى أفراحهم وأتراحهم. إشراف بيت الزكاة وقال عاشور إن قيام الأسر بواجبها لاشك سيحد بشكل كبير من الذين يتم إيداعهم دور الأيتام. لكن ذلك بالطبع لا يعنى تلاشى دور هذه الدور، لذا فيجب فى الوقت نفسه إعادة النظر فى هذه الدور وأن تخضع جميع دور الأيتام والمسنين فى مصر لبيت الزكاة الذى يجرى إنشاؤه حاليا تحت رعاية الأزهر الشريف، وأن يتكفل بيت الزكاة بالمتابعة الفنية والمادية، انطلاقا من الدور العظيم الذى يجب أن يقوم به الأزهر تجاه هذه الفئات من خلال بيت الزكاة. ولابد فى هذا الصدد من إنشاء هيكل خاص أو كيان يحظى بعناية فائقة من الدولة للأيتام ومجهولى النسب وأطفال الشوارع يتولى جميع شئونهم بدءا من تربيتهم وتعليمهم وإلحاقهم بعمل مناسب وتزويجهم، لأن هؤلاء قنابل موقوتة، وإن لم نحتويهم ونوجههم التوجيه الأمثل سيكونون وبالا على المجتمع بأسره. استقرار الأسرة أولا من جانبه يشير الدكتور القصبى زلط، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إلى أن العمل على إصلاح الأسرة واستقرارها هو الأساس فى التعامل مع قضية الأيتام، ويجب أن تُقوى الأنساب الترابط الاجتماعى بين الأسر والعائلات من خلال التواصل والعلاقات الطيبة ويتم مزج العائلتين الكبريين فى عائلة واحدة، وفى مجتمع تسوده مثل هذه العلاقات، لن يضيع طفل بين عائلتين أسرة أبيه وأسرة أمه وإن فقد عائله الأصلى (الأب). فإن افتقرت بعض الأسر إلى الجانب المادي، وأصابها العوز نتيجة فقد عائلها (الأب) فلا تفتقد الجانب المعنوى من بر وعطف وحسن توجيه وتربية حسنة ونحو ذلك مما تحتاجه الناشئة، وهنا يأتى دور باقى أفراد الأسرة الأكبر، أسرة الزوج وأسرة الزوجة وأقاربهم، ثم دور المجتمع كله بأن يقدموا يد العون للمرأة التى فقدت عائلها حتى لايضطروها إلى التفكير فى وجهة غير سليمة لتوفير قوتها وقوت صغارها، أو هجر أبنائها لينضموا إلى أطفال الشوارع أو إيداعهم إحدى دور الرعاية. وأضاف: إن اليتيم الذى فقد عائله ولا يجد من يؤويه، المجتمع كله مسئول عن رعايته بدءا بالأقارب فالجيران، وكل من يعلم بحاله، وكلنا مسئولون أمام الله عز وجل، كل حسب طاقته وجهده، فأى حرج للأسرة المسلمة فى أن تحتضن يتيما وترعاه وتكفله وتضمه إلى أبنائها، وإلا فلا أقل من أن ترعاه فى بيته بين أمه وأقاربه، وتشمله بكافة احتياجاته النفسية والمادية! فهذا خير لليتيم من أن يؤتى به إلى دار أيتام، ومن المعلوم أن كل يتيم لا تخلو عائلة أبيه وأمه، من موسر، سواء من الأقارب أو الأباعد، يستطيع التكفل بكل شئونه، ومن عجب أن نرى أناسا يتطوعون بكثير من أعمال البر والخير للغرباء ويتنكرون لمن تربطهم بهم صلة رحم أو نسب، أو حتى جوار يلتصق به.