مدفعية الجيش الإسرائيلي تستهدف بلدة "عيترون" جنوب لبنان    إعلام إسرائيلي: حماس تتعافى في خان يونس وشمالي غزة لإظهار سيطرتها على الأرض    حلو الكلام.. يقول وداع    مدرج اليورو.. إطلالة قوية لجماهير الدنمارك.. حضور هولندي كبير.. ومساندة إنجليزية غير مسبوقة    لجنة الحكام تُعلن عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك والمصري البورسعيدي    تشكيل منتخب النمسا المتوقع أمام فرنسا في أمم أوروبا 2024    "تهنئة صلاح وظهور لاعبي بيراميدز".. كيف احتفل نجوم الكرة بعيد الأضحى؟    حقيقة عودة كهربا إلى الدوري السعودي    يورو 2024 - دي بروين: بلجيكا جاهزة لتحقيق شيء جيد.. وهذه حالتي بعد الإصابة    انخفاض درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حال. الطقس خلال أيام العيد    جثة مذبوحة وسط الطريق تثير ذعر أهالي البدرشين    زيجته الثانية أشعلت غضبهم.. الأبناء وأمهم يحرقون مسكن والدهم في الوراق    في أول أيام التشريق، لقطات تهز القلوب لامتلاء صحن المطاف (فيديو)    ارتفاع عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على شقة سكنية شمال غزة إلى 3 شهداء    عبير صبري: شقيقتي مروة «توأم روحي» و«لسه بتاخد مني عيدية.. فلوس ولبس وكل حاجة»    الصحة تُوجه نصائح مهمة للعائدين من الحج.. ماذا قالت؟    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن فى ثانى أيام العيد الإثنين 17 يونيو 2024    فوائد إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية فوق أسطح المباني.. تقلل انبعاثات الكربون    أثناء رمى الجمرات.. وفاة رئيس محكمة استئناف القاهرة خلال أداء مناسك الحج    مشاهد توثق اللحظات الأولى لزلزال بقوة 6.3 ضرب بيرو    انخفاض أعداد الموقعين على بيان مؤتمر أوكرانيا الختامي ل82 دولة ومنظمة    صفارات الإنذار تدوى فى كيبوتس نيريم بغلاف قطاع غزة    محافظ جنوب سيناء يشهد احتفال أول أيام عيد الأضحى بالممشى السياحى بشرم الشيخ    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هل تتمتع الحيوانات بالوعي؟ كيف تغير الأبحاث الجديدة المفاهيم    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    في ثاني أيام العيد.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 17 يونيو 2024    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    لم يتحمل فراق زوجته.. مدير الأبنية التعليمية بالشيخ زايد ينهي حياته (تفاصيل)    بيلينجهام رجل مباراة إنجلترا وصربيا في يورو 2024    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    إيرادات حديقة الحيوان بالشرقية في أول أيام عيد الأضحى المبارك    عاجل.. موعد اجتماع لجنة تسعير المواد البترولية لتحديد أسعار البنزين والسولار    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    خفر السواحل التركي يضبط 139 مهاجرا غير نظامي غربي البلاد    زيلينسكي يدعو لعقد قمة ثانية حول السلام في أوكرانيا    ممثل مصري يشارك في مسلسل إسرائيلي.. ونقابة الممثلين تعلق    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    فقدان شخصين جراء انقلاب قارب في ماليزيا    وفاة الحاج الثالث من بورسعيد خلال فريضة الحج    موعد مباراة إنجلترا والدنمارك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    بعد كسر ماسورة، الدفع ب9 سيارات كسح لشفط المياه بمنطقة فريال بأسيوط    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    منافذ التموين تواصل صرف سلع المقررات في أول أيام عيد الأضحى    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد زكى والسادات وصلاح جاهين وحكاية سعاد حسنى والأشرار

لا يرد اسم الممثل الفذ أحمد زكى على ذهنى إلا مرافقا لاسمى صلاح چاهين وسعاد حسنى. والمدهش أن علاقتى بكل منهم تمت على مرحلتين أو لقئين احدهما فى بواكير الصبا بماضٍ بعيد علت مشاهده غبشة ضبابية تمنعنى تذكر التفاصيل، والأخرى حين اشتعل الرأس شيبا منذ ما لا يتجاوز عقدين من عمرى.
فقد رأيت سعاد حسنى – للمرة الأولى – فى الإسكندرية حين زارتنا بصحبة الأستاذ عبد الرحمن الخميسى الذى كان قدمها فى ذلك الوقت لتمثل فى السينما للمرة الأولى، وتلعب دور البطولة الأول فى فيلم (حسن ونعيمة).. وكانت سعاد بنتا صغيرة شقية تسربت من وسط قعدة الكبار لتلعب مع شقيقى العميد أحمد عماد عبد السميع – رحمة الله عليه – كرة القدم على البلاچ بين أصحابه وكلهم من الفتيان وتصرخ وسطهم مستعجلة سرعة التمرير!
ثم مضت على تلك الواقعة ثلاثة عقود – تقريبا – قبل لقائى الثانى بسعاد حسنى حين أعاد الأستاذ صلاح چاهين تعارفنا وقتما كانا يجهزان لأغنية بديعة عن عيد الأم من الحان كمال الطويل مطلعها: (يا أمه.. يا أمايا.. يا أماتى.. سلاماتى.. احتراماتى.. قبلاتى).
تعارف (تليفونى) دشن لعلاقة تليفونية ظلت تجمعنى بسعاد حسنى حتى ما قبل رحيلها بأيام لتختتم الأقدار علاقتنا وأحد طرفيها فى لندن، والآخر فى واشنطن!
أما علاقتى بصلاح چاهين فبدأت أيضا فى زمان بعيد حين زارنا فى بيتنا بالمنيل بصحبة الشيخ سيد مكاوى الذى غنى لنا القافية على عوده بنحو جعلنى أتذكرها كلما قابلت ذلك الملحن الكبير فى أى محفل، وهكذا فعلت أثناء إجراء حوار معه لمجلة (المصور) زمن رئاسة الأستاذ مكرم محمد أحمد لتحريرها، حين طلبت من الشيخ سيد فى ختام الحوار – الذى جرى فى بيته بالعجوزة – أن يغنى لى القافية، فطلب منى إحضار العود من على الكنبة، وغنينا معا، ومازال ذلك الفاصل الغنائى مسجلا فى شريط الحوار الذى احتفظت به مع مئات من تسجيلات حواراتى.
على أية حال فقد عاودت تأسيس علاقتى بالأستاذ صلاح چاهين حين جئت بالأهرام (طالبا من قسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة) وبدأت التدريب فى قسم السكرتارية الفنية (الإخراج الصحفى).
عند تلك النقطة بدأت صلتى تتطور بالأستاذ صلاح چاهين، ورحت أزوره – كثيرا – فى بيته بشارع جامعة الدول العربية مرات بصحبة الأساتذة مكرم محمد أحمد (وتر الصحافة المشدود الذى لم يتوقف عن تعليمنا حتى اللحظة الراهنة) وسمير صبحى (استاذى فى قسم السكرتارية الفنية) وسعيد عبد الغنى الفنان والكاتب البديع الذى رافق مكرم رحلة عمر طويلة بداياتها قسم الحوادث فى الجريدة ضمن كوكبة من المحررين حاملى المؤهلات العليا كانوا نواة تطوير «الأهرام» الجديد (تخرج مكرم من قسم الفلسفة فى كلية الآداب وتخرج سعيد من كلية الحقوق).
وفى مرات أخرى – كثيرة – كنت أزور صلاح وحدى واغرق معه فى أحاديث عن الفن والسياسة والشعر تغمرها أحاسيس طفولية جدا وحقيقية جدا وكان صلاح – وقتها – مهتما للغاية برسومى الكاريكاتورية حتى إنه – فى أكثر من حوار صحفى – تحدث عن اننى سأكون خليفته.
وفى منزل صلاح چاهين كانت المرة الأولى – كذلك - التى التقيت فيها شابا اسمرا نحيلا لا تستطيع تجاهل ذلك التعبير النافذ والمحيط الذى يغمرك به إذا التقت عيناك بنظراته.
أحمد زكى.. الذى كان يجلس معى على الأرض أمام مكتب صلاح، ويقلد لنا الرئيس أنور السادات على نحو مبهر لا يصدق.
أما لقائى الثانى أحمد زكى فكان وقت رئاستى لمكتب هذه الصحيفة فى لندن، حين تلقيت مكالمة تليفونية دولية من زميلى الشاب الحبيب محمود موسى الذى عمل معى فى مكتب جريدة الحياة الدولية ثم صار – بعد ذلك – الناقد الفنى بالأهرام.. جاءنى صوته فى مزيج من الحماس والدهشة يسألنى: «أنت عندك رواية اسمها الأشرار يا دكتور؟» فرددت بالإيجاب، وعاود محمود: «عندك مانع أنها تتحول لمسلسل تليفزيونى؟».. «أبدا يا محمود.. إيه الحكاية؟»، ثم أضاف: «أصل الأستاذ أحمد زكى عاوز يمثلها وسألنى إذا كنت أعرفك لأحصل منك على الموافقة فقلت له انك أستاذنا.. هو أنت تعرفه شخصيا يا دكتور؟».. وأجبت: «رأيته مرات معدودة عند صلاح چاهين ولا أظن أنه يذكرنى».. وقال محمود موسى «على أية حال سأرسل لك على الفاكس عقدا من شركة حسين القللا موقعا من أحمد زكى والمنتج وأرجو أن توقعه وتعيد إرساله لى».
وهكذا فعلت، وقام محمود موسى بتسليم السيدة قرينتى فى القاهرة مبلغ التعاقد، فى حين بدا أكثر الأطراف حماسا لظهور ذلك العمل.
ومرت شهور قبل أن يأتى موعد اجازتى السنوية، وكنت أتحصلها فى شهر رمضان حتى لا تفوتنى أجواء الشهر الفضيل فى الوطن، وفى أوائل أيام تلك الأجازة طلبت من الأستاذ محمود موسى أن يدبر لقاء بينى والأستاذ أحمد زكى لأعرف إلى أين وصل إعداد ذلك العمل، ولكننى – فى الحقيقة – كنت مسكونا بفضول كاسح يدفعنى إلى معرفة الكيفية التى بدأت بها علاقة الفنان الكبير وذلك النص الادبى.
ولما تحدد موعدنا (فى المغرب على الإفطار فى فندق هيلتون رمسيس الذى كان أحمد زكى يقيم به بعد رحيل زوجته الفنانة هالة فؤاد)، رأيت أن أبدأ اللقاء بحوار مسجل مع أحمد زكى قبل الإفطار، لأنها طريقتى التى تقودنى – عادة – إلى تعارف شامل وحقيقى بمن أبغى التعرف إليهم.
جلسنا فى غرفة أحمد زكى «المكركبة» إلى درجة غير معقولة لنجرى حوارنا ونسلى صيامنا قبل حلول المغرب، ولكننى لم استطع منع نفسى من سؤال رحت أكرره على أحمد زكى – بطرق متنوعة – حول الطريقة التى تعرف بها إلى روايتى، فكان يروغ ويزوغ دون أن يريحنى أو يجيبنى.
وهكذا فعلت على الإفطار وبعده، فكان أحمد يلهينى حتى لا أواصل التساؤل، بأن يضع فى طبقى تلالا من الطعام، أو يسأل بعض النادلين – الذين يتفانون فى خدمته – أن يغرفوا لنا شيئا نسى أن يحضره من «البوفيه».
ومضت تلك الجلسة دون أن أعرف السر من أحمد زكى، وعدت إلى بريطانيا لتغمرنى شواغل عملى من جديد، وكانت سعاد حسنى انتقلت لتقيم – منذ شهور – فى لندن لتعالج العصب الخامس، وتعمل على تقويم أسنانها، وتنحيف جسمها لتخفيف بعض العبء على عمودها الفقرى، واستمرت – طوال الوقت – فى علاقتها التليفونية بى تحدثنى فى كل شئ ببساطة وعفوية وطفولة شقية، ولكنها أبت أن تجعلنى أراها أبدا، حتى إنها حين كانت تريد ابتياع الجرائد المصرية من مكتبة الأهرام فى «إدچوار رود» تعمد إلى الاتصال بالعاملين فى المكتبة لسؤالهم – أولا – عن انصرافى، فإذا تأكدت من ذلك، خفت إلى المكتبة واشترت ما تريد.
وبلغ من حرصها على ألا أراها، أنها سجلت رباعيات صلاح چاهين فى ستوديو (MBC) وأرادت أن ترسل التسجيل معى إلى نادية صالح فى الإذاعة وقت اجازتى الرمضانية لتقوم ببث تلك الحلقات طوال الشهر الكريم، فطلبت سعاد منى أن أرسل سائقى إلى المنزل الذى تقيم به ليأخذ الاسطوانات المضغوطة (CD) من تحت «دواسة» أمام الباب، وقد فعلت – فيما يبدو – لأنها لم تك متأكدة من أنه سيأتي إليها دون أن أصحبه.
وفهمت أن نجمة كبيرة عرفها الجمهور باسم (سندريلا الشاشة) لم تك تحب أن يراها بعض الناس فى حالتها قبل العلاج، وبخاصة اننى لم أرها – أبدا – بعينى بعد لقاء الإسكندرية حين كانت فى التاسعة عشرة من عمرها وكنت فى الخامسة، وذلك رغم الاتصال شبه اليومى الذى جمعنى بها وصولا عتبة رحيلها الغامض.
وحتى فى حالات أخرى كانت تخرج فيها وتلتقى الناس قبل مرضها، فإن الظروف منعتنى – أيضا – رؤيتها وكأن الأقدار أرادت أن يكون صوتها الندى البشوش الطفولى هو ما يتبقى فى ذاكرتى عن تلك الفنانة الجميلة.. الطيبة.. العبقرية، وليس جمالها وفتنتها اللذان جعلا منها سندريلا.
وأذكر أننى أجريت مع صلاح چاهين حوارا كان بعنوان (الاعترافات الأخيرة) ونشرته فى المصور بعد وفاته، إذ نُقل صلاح إلى مستشفى الصفا بالمهندسين بعد إجراء الحوار بساعات (ذكرت منى قطان قرينة الأستاذ صلاح فى مذكراتها أننى كنت أخر من التقاه).
ولما أردت الاطمئنان عليه واتصلت بإدارة المستشفى، حولتنى إلى الأستاذ الدكتور عدلى الشربينى أستاذ التخدير الذى امتنع عن إجابة أى سؤال لى إلا بالرجوع إلى أفراد أسرة صلاح چاهين، ولما كانوا غادروا المستشفى فى ذلك الوقت، فقد سألت الطبيب: (ومن معه إذن؟!) فاجابنى: (كمال الطويل وسعاد حسنى) فقلت له «إذن اسألهما فهما يعرفان أننى قريب منه» فلما رجع إليهما أكدا له أنه يستطيع الكلام معى، وقد ظللت على اتصال به حتى اخبرني النبأ الفاجع بوفاة صلاح فى الصباح الباكر من يوم الرحيل.
حتى فى هذا الموقف أبت الظروف أن أرى سعاد التى ربما لم أك محتاجا إلى رؤية غيرها وسط كل ذلك الحزن الذى اكتسح مشهد الحياة يومها.
وحتى حين سمحت لآخرين كثر أن يروها فقد احتجبت عنى، وأذكر أن فنان الكاريكاتير الشهير بهجت عثمان جاء إلى لندن لعلاج عينيه فى أواخر سنواته، وقد رتبت معه لإقامة معرض كبير لعدد من قطع الكليم رسم عليها بعض رسوم تراثية وأبيات من الشعر العربى والاندلسى، ووقتها جهزت المعرض للافتتاح فى مبنى الأهرام (الأهرام هاوس) فى «ماليربون» وطلبت من الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى (رئيس تحرير صباح الخير التى جمعته وبهجت) أن يقوم بافتتاح المعرض، وكان بهجت فى قمة سعادته، وأهدانى إحدى قطعه الفنية المعروضة، وقال لى أن أهدى قطعة أخرى لسعاد حسنى، التى لم تحضر المعرض وكأنها أبت – مرة أخرى – أن أراها.
نهايته..
حين طلبت عودتى من لندن إلى القاهرة، قررت إدارة الجريدة نقلى لأصبح رئيسا لمكاتب الأهرام فى الولايات المتحدة الأمريكية (من دون فترة فاصلة)، وأثناء اعدادى لمتاعى، وحزم حقائبى، جاءنى صوت سعاد حسنى من (الانسر ماشين) يقول: «ارفع السماعة يا دكتور.. عايزاك» فأسرعت إلى الرد ووجدت سعاد – بعد التحيات والسلامات والتمنيات بالتوفيق – تقول لى: «بقى أنت بقى يا سى دكتور حيران قوى.. وعاوز تعرف أحمد زكى عرف روايتك (الأشرار) منين.. أنا اللى بعتها له.. جبتها من مكتبة الأهرام وقريتها فى ليلة واحدة.. ولو كانت ظروفى الصحية تسمح كنت مثلتها».
وتركتنى سعاد – فى دهشة وتأثر – مع وعد بمواصلة الاتصال بى عند وصولى إلى أمريكا، وهو ما جرى – فعلا – واستمر حتى قبيل أيام من وفاتها حين طلبت منى أن تعرف التكلفة التقريبية لعلاج العصب الخامس، وتنحيفها فى الولايات المتحدة، وقد وعدتها بسؤال أحد الأطباء المصريين من اصدقائى العاملين فى واحدة من كبريات المستشفيات الأمريكية دون إخباره – قطعا – باسم المريضة، وهكذا سألت الطبيب المصرى/ الامريكى الكبير فوعدنى بأن يبلغنى بالتكلفة التى ستكون تقريبية جدا لأنه لابد أن يعرف الحالة بالضبط ويفحصها بنفسه، وقد أرسل لى الطبيب ورقة فيها رقم لتلك التكلفة التقريبية فى نفس يوم وفاة سعاد حين سقطت من شرفة منزلها فى (ستيوارت تاور) بإدچوار رود فى 21 يونيو عام 2001، وهو ما جعلنى أمعن التأمل – حتى اللحظة – فى تصاريف الأقدار التى تعد تلك الواقعة تجلٍ كاشف لتحكمها فى الآجال والهندسة الدرامية جدا لبلوغ تلك الآجال.
...................
عرفت إذن كيف وصلت رواية (الأشرار) إلى يد أحمد زكى الذى تضفرت علاقتى بصلاح چاهين وصلتى بسعاد حسنى فى نسج جوانب مشهدها العجيب.
تلكأت عملية إنتاج الرواية إلى أن توقفت وقت إعداد أحمد زكى لفيلم (حليم) وكان المرض قد أنشب مخالبه فى جسده على نحو أنهكه بالفعل، وقابلته على منضدة الكاتب الأستاذ وحيد حامد الذى أعوده فى محله المختار مطلا على النيل فى فندق (جراند حياة) كلما أردت استمداد المدد من حكمته التى طبعت وثائق إبداعه السينمائى، ومقالاته الصحفية على نحو ليس له شبيه.
وفى هذا المكان كان لقائى الأخير بأحمد زكى، الذى أخبرنى فيه وحيد حامد أن أحمد بلغ من العمر ما يجعله يتجاوز سن بطل الأشرار (صبرى عكاشة) ومما سيجعل من المتعذر قيامه بالدور.. وسارت الرواية بعد ذلك فى مسار آخر حتى لعب بطولتها مجدى كامل ولقاء الخميسى منذ أربعة أعوام.
وفى نفس الجلسة راح أحمد زكى يحكى عن (حليم) ويقلد طريقة كلامه وحركة يديه، ويحاول اقناعى بأن ألعب دور صلاح چاهين، وفاجأنى بأن فتح حقيبة أوراقه واخرج منها (بيريه) ووضعه على رأسى طالبا منى أن أتقمص صلاحا وأتحدث مثله ببطء وصوت رخيم، وعبثا حاولت التملص من تيار حماس أحمد زكى الجارف، ولم أفلت من بين يديه إلا بعد أن وعدته بالتفكير فى الأمر!!
............
لم أتوقف – أبدا – منذ رأيت أحمد زكى على المسرح ثم الشاشتين السينمائية والتليفزيونية – عن مراقبة الاداء المعجز لذلك الفنان العبقرى.
وقد كان حوارى معه هو – بمعنى أو بآخر – وثيقة عن فن التمثيل (التشخيص)، وإن كان فيلم «السادات» هو بوابته، فإنه امتد ليشمل كل جوانب الساحة السينمائية، وكل نتاج أحمد نفسه.
وأهمية ذلك الحوار/ الوثيقة ليست فى آراء أحمد زكى عن فن التمثيل، ولكن فى أنها تظهر – إلى حد كبير – نوع المعاناة التى يمر بها النجم وهو يستقطر آراءه فى كل ما يدور حوله، ويراكمها لتصبح – فى التحليل النهائى – ما يسمى «الرؤية».. بعبارة أخرى.. ذلك الحوار كان صورة فوتوغرافية لمبدع لا يتوقف عن التفكير والتأمل، والحديث إلى نفسه والحوار مع الناس.. صورة تأتى فى نهاية مشوار طويل من العناء فى لحظة الشعور بالسعادة والرضا، ولحظة يضحك فيها، و(الصورة تطلع حلوة)!!
.............
سألت أحمد زكى: «السينما هى عناق الصناعة مع الموهبة، كيف ترى مدى تحقق أى من النسقين فى فيلم (السادات)، وما هو تقديرك لنوع الآراء التى ترى أن فيلما كالسادات، أو حتى كغاندى هو إعلاء للقيم التسجيلية على القيم الدرامية؟».
واجابنى: «التسجيل هو لقطات تاريخية، أو رص وقائع حقيقية مرتبة – بطريقة ما – بالتسلسل حادث وراء آخر، وأن تخرج من هذه العملية – فى النهاية – بمعلومات.
أما الفيلم حين يبتغى التوثيق أو التعرض لشخصية تاريخية بعينها فهو يعلى مقتضيات الدراما على مقتضيات التسجيل.. أنت تدخل إلى ساحة الدراما ليس لكى تأخذ معلومات، وإلا كان الحصول على كتاب مصور يحقق غايتك، ويشبع الاحتياج الداخلى عندك، أنت تدخل فى الدراما داخل الشخوص نفسها، كيف كانوا يفكرون، وكيف كانوا يحلمون، وكيف تعاملت الشخصيات التاريخية مع المآزق التى تعرضت لها، وكيف شكل كل منها قراره.
الدراما تدخل رءوس ونفوس الشخوص التى تدير الحدث، وتتلقى الحدث أو تتعرض له، بعبارة أخرى هى التى تقوم بصناعة الفعل ورد الفعل، وليس معنى ذلك أن نرسم خطا قاطعا فاصلا بين التسجيل والدراما، ونتصور أنه لا يمكن حدوث أى تداخل بين المربعين، فأنت أثناء صناعة دراما تتعلق بشخصية تاريخية، تجد التوثيق والتسجيل أصبحا لزاما لرسم الخلفية التى تتحرك أمامها الشخصية محل التركيز.. وما بين التوثيق والمعايشة تدور اللعبة بحيث يظهر الاثنان فى العمل الدرامى، ولكن كل بمقدار»!!
وأضاف أحمد زكى:
«حين يقدم الممثل شخصيات مثل خالد بن الوليد أو صلاح الدين الايوبى أسهل ألف مرة من أن يقدم شخصيات مثل عبد الناصر والسادات.. ففى حالة صلاح الدين يتفرغ الممثل لتوصيل المشاعر والأفكار التى سمع عنها أو قرأ، أو أجمع الناس عليها واتفقوا، أما عندما يقوم الممثل بتناول شخصية معروفة ملموسة محسوسة عاصرها الجمهور، ورآها، وبعضه يعيش معها أو تحت تأثيرها، فإن الضرورة تحتم أن يضيف هذا الممثل على أفكاره عن الشخصية، وليدة الدراسة والقراءة، مجموعة من الأنساق التى تمثلها هذه الشخصية المعروفة، ومن ثم يحاول الممثل أن يقترب من الصوت، ومن الشكل، وبعض التفاصيل الخارجية مثل حلاقة شعرى بالموس لأبدو مثل السادات»، وقال أحمد زكى: «الممثل داخل كل المعجنة الاجتماعية – إذا جاز التعبير – ينتقل مما هو خاص إلى ما هو عام، ومما هو اجتماعى إلى ما هو نفسى، ثم يعبر الاثنين إلى ما هو سياسى، أو يقدم كل هذا معا فى ضفيرة واحدة، أو ينتقل من أداء شخصيات متعلمة مثقفة أو محتلة لقمة الهرم الاجتماعي فى البلد إلى شخصيات هامشية انقطع التراسل بينها وبين المجتمع بالرفض أو بالتعايش»
ووجدت فى ذلك التنظير المحكم مدخلا مناسبا للإيغال فى مستوى مختلف من الحوارات الفنية مع ذلك النجم الفلتة فسألته:
«لكى تتوحد مع شخصية ما، هل كان لابد أن تتصالح مع الشخصية التى لعبتها فى فيلم (السادات)، وهل دخلت فى أى جدل ذاتى أو جدل موضوعى، أو جدل مع الآخرين لتحقيق تلك المصالحة؟»
«أنا ناصرى الهوى، وأحب عبد الناصر، لأننى من بسطاء الشعب وفقرائه، وظللنا انجاز الثورة التى أدخلتنا المدارس، وفتحت لنا أكاديمية الفنون التى تعلمت فيها.. وتشكل وجدانى فى ظل معارك القناة والسد العالى، وجلاء الانجليز.. أحب الثورة حتى بانكساراتها، حتى بهزيمة 1967!!.. عبد الناصر كان أبى، وعندما رحل كنا نقول: يا عينى على من سيأتى بعده فالشعب لن يقبل أى اسم بعد عبد الناصر!
أى كان من سيجئ بعد عبد الناصر كنا سنصدر له – أولا – هوانا فى حب عبد الناصر، ومن جانب آخر كنا سنرفض أيا يجئ.. ومن ثم فمقدرة السادات على أن يتجاوز هذا الوضع كانت نقطة حسبت له داخلى، كما أنها كانت أحد جوانب الإجحاف التى تعرض لها مبكرا الذى استدر تعاطفا كبيرا معه.. لقد أحببت السادات حتى حرب أكتوبر، وبعد ذلك باتت الرؤية ضبابية جدا بالنسبة لمواطن متعلم تعليما عاديا مثلى، ولكننى بدأت أعيد قراءته مرة ثانية وبعد مدة كبيرة أعدت تشكيل رأيى فى جوانب كثيرة»، وأضاف أحمد زكى: «رحل السادات قبل أسبوع من موعد تحدد لى معه ليحدثنى عن رغبته فى أن أمثل شخصيته كما جاءت فى نص: البحث عن الذات، ومن ثم تردد كثيرا صدى صوت قوى فى جنبات نفسى – ولسنوات – يقول: أريد أن أمثل هذا الرجل!
أنا ابحث عن شخصية مركبة، وليس هناك أبدع من تلك الشخصية من الزاوية الفنية.. وقابلت السيدة جيهان السادات لأسألها عما غمض على النص من معلومات، وعرضت عليها السيناريو فى صورته الأولية، وقلت: أنا آسف لبعض الانتقادات، فبعد حرب أكتوبر العظيمة كانت هناك أشياء ضده وبالذات فى اعتقالات سبتمبر، فحسمت السيدة جيهان هذا الكلام قائلة: الفيلم لن يكون فيلما إذا لم يحتو بعض النقد.. ووجدت نفسى أمام سيدة فاهمة ومدركة ومثقفة، وقالت لى إنها بنفسها – سألت الرئيس حول أحداث سبتمبر لأنها لم تك راضية عنها، ولكن السادات أجابها: يا جيهان.. إسرائيل (بتتلكك) ضدنا مستغلة ديمقراطية الشارع الاسرائيلى، وديمقراطية الشارع الامريكى، وهناك أصوات فى إسرائيل لا تريد اتفاقية السلام التى ابرمناها، وأنا أريد استرجاع بقية سينا، وأخشى أن (يتلكك) بيجن، ويقول أن شعبك لا يريد السلام ومن ثم فأنا أبعدتهم ولم أعتقلهم، ولم يتعرض أحدهم لأية اهانة.. آخذ ارضى فى 24 بالليل، فأفرج عنهم فى الصباح وتصير الفرحة فرحتين»
وكعادتى أتعمد فى بعض حواراتى التساؤل حول ما هو بديهى حين أرغب فى تحصل إجابة تمثل وجهة النظر الشخصية لمن أحاور ومن ثم استكمل رسم بورتريه دقيق لفهمه أو فكره أو انطباعاته من دون خلط أو التباس ومن ثم وجدتنى أسأل أحمد زكى عن حجم (المقصود) وحجم (التلقائى) فيما يبدعه فاجابنى:
«اتفقنا أن من حق الممثل التعرض لأية شخصية لأن تلك هى مهنته، ولذلك فحينما يتصور أحد أننى بادائى للسادات بعد عبد الناصر، اخترت نموذجا سهلا من فئة الإبداع سابق التجهيز لمجرد أن الاثنين رئيسى جمهورية فذلك هزر وكلام فارغ.. لقد قدمت شخصيات لثلاثة من ضباط البوليس، ولكن كل واحد منهم كان شيئا مختلفا للغاية على الرغم من أنه تخرج فى نفس الكلية، ويحمل نفس الشارة.. كل منهم درس القانون، ولكن الاختلاف بينهم هو فى كيفية تعامله مع ذلك القانون».
وتابع أحمد زكى: «الاداء هو التوحد مع الشخصية، وبمقدار ما تتوحد مع ما يدور داخل الشخصية، بمقدار ما يكون الاداء كبيرا ومهما.. التجسيد أو التقمص يعنى تلبس طرق الشخصية فى الفعل ورد الفعل، فالسادات – مثلا – وجد نفسه فى قلب مأزق مراكز القوى، فكيف تعامل مع شخوص الموقف، وكيف رآه أولئك الناس، وكيف نظر إليهم هو، وأدار الصراع بتركيبته السيكولوجية والشخصية.. التوحد مع الشخصية هو الخطوة الأهم للإجادة، وذلك فعل (مقصود) فى بدايته، ثم (تلقائى) بعد ذلك بمعنى أننى سعيت لأضع نفسى فى حالة توحد مع السادات، ثم اجدنى – بعد ذلك فى المشاهد التى أمثلها – أتصرف بتلقائية كما لو كنت السادات.. هذا هو شغل الممثل، بل هذا هو الممثل نفسه»!!
................
الكلام مع أحمد زكى امتد لساعات طويلة أثبت لى فيها قدرته الخطيرة فى صوغ ما يشبه (نظرية) للتمثيل، وهى حالة نادرة ينجح المبدع خلالها فى بناء نموذج معرفى وابتكارى فلسفى يلخص أمورا صعبة الوصف أو التحديد وأعنى بها التقمص والتوحد والتشخيص، والتى ربما وشت لى بها نظرته القادرة – بما لا يقاس – على النفاذ والإحاطة، وقد كانت بداية تعرفى على ذلك العملاق الممثل الذى تضفر اسمه فى نفسى وتجربتى مع إسمى صلاح چاهين وسعاد حسنى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.